وفي لفظ آخر " لا تفضلوا بين الأنبياء " وفي لفظ " لا تخيروا بين الأنبياء " فقال قوم: إن هذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل إنه قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال " لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى " تواضعا مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله " أنا سيد ولد آدم "، وقيل إنما نهى ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء، فيكون مخصوصا بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأمونا، وقيل إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات، وقيل إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية. وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل اتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا. قوله (منهم من كلم الله) وهو موسى ونبينا سلام الله عليهما. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في آدم " إنه نبي مكلم ". وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله (ورفع بعضهم درجات) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا، وقيل إنهم أولوا العزم، وقيل إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأطالوا في ذلك، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وآله وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسئ وأنت تظن أنك مطيع محسن. قوله (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك. قوله (وأيدناه بروح القدس) هو جبريل، وقد تقدم الكلام على هذا. قوله (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) أي من بعد الرسل، وقيل من بعد موسى وعيسى ومحمد، لأن الثاني مذكور صريحا، والأول
(٢٦٩)