فيه أن كل ما يضمره العبد ويخفيه أو يظهره ويبديه فهو معلوم لله سبحانه، لا يخفى عليه منه شئ ولا يعزب عنه مثقال ذرة (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك. قوله (يوم تجد) منصوب بقوله - ويحذركم الله نفسه - وقيل بمحذوف: أي أذكر، (ومحضرا) حال، وقوله (وما عملت من سوء) معطوف على ما لأولى: أي وتجد ما عملت من سوء محضرا تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. فحذف محضرا لدلالة الأول عليه، وهذا إذا كان " تجد " من وجدان الضالة، وأما إذا كان من وجد بمعنى علم كان محضرا هو المفعول الثاني، ويحوز أن يكون قوله (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) جملة مستأنفة، ويكون " ما " في ما عملت مبتدأ ويود خبره. والأمد: الغاية، وجمعه آماد: أي تود لو أن بينها وبين ما عملت من السوء أمدا بعيدا، وقيل إن قوله (يوم تجد) منصوب بقوله (تود) والضمير في قوله (وبينه) لليوم، وفيه بعد، وكرر قوله (ويحذركم الله نفسه) للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم، وفي قوله (والله رؤوف بالعباد) دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفا بهم. وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب ابن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر، فأنزل الله فيهم (لا يتخذ المؤمنون الكافرين) إلى قوله (والله على كل شئ قدير) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه قال: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ) فقد برئ الله منه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله (إلا أن تتقوا منه تقاة) قال: التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به، وهو معصية الله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه في الآية قال: التقاة التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان، ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال: التقية باللسان، وليس بالعمل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال إلا أن يكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك. وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا نبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، ويدل على جواز التقية. قوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (قل إن تخفوا) الآية قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسروا وما أعلنوا. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله محضرا، يقول موفرا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا، يكون ذلك مناه. وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. وأخرجا أيضا عن السدي (أمدا