كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم. وقوله (عن تراض) صفة لتجارة: أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى - هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم - وقوله - يرجون تجارة لن تبور -.
واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر كما في الحديث الصحيح " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر ".
وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله (ولا تقتلوا أنفسكم) أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهى عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء المارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما. قوله (ومن يفعل ذلك) أي القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلما والقتل عدوانا وظلما، وقيل هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) لأن كل ما نهى عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) والعدوان: تجاوز الحد. والظلم: وضع الشئ في غير موضعه، وقيل إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر:
* وألفى قولها كذبا ومينا * وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ. قوله (فسوف نصليه) جواب الشرط: أي ندخله نارا عظيمة (وكان ذلك) أي إصلاؤه النار (على الله يسيرا) لأنه لا يعجزه بشئ. وقرئ " نصليه " بفتح النون، روى ذلك عن الأعمش والنخعي، وهو على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية. قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) أي إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها (نكفر عنكم سيئاتكم) أي ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطا لتكفير السيئات.
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها، فأما في تحقيقها فقيل إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روى نحو هذا عن الأسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم قالوا والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سببا لتكفير السيئات هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود:
الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير كل ذنب نسبه الله إلى النار