فيكون الفعل الثاني داخلا مع الأول في حيز الصلة. والمعنى: وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها وهي حواء. وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب والزوج والبث، والضمير في قوله (منها) راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج. وقوله (كثيرا) وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل هو نعت لمصدر محذوف: أي بثا كثيرا. وقوله (ونساء) أي كثيرة، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأول. قوله (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية، وأصله تتساءلون تخفيفا لاجتماع المثلين. وقرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإدغام التاء في السين، والمعنى: يسأل بعضكم بعضا بالله والرحم، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة، فيقولون: أسألك بالله والرحم، وأنشدك الله والرحم، وقرأ النخعي وقتادة والأعمش وحمزة (والأرحام) بالجر. وقرأ الباقون بالنصب.
وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر، فأما البصريون فقالوا: هي لحن لا تجوز القراءة بها. وأما الكوفيون فقالوا هي قراءة قبيحة. قال سيبويه في توجيه هذا القبح: إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال الزجاج وجماعة: بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى - فخسفنا به وبداره الأرض - وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر، وأنشد:
فاليوم قربت تهجونا وتمدحنا * فاذهب فما بك والأيام من عجب ومثله قول الآخر:
تعلق في مثل السواري سيوفنا * وما بينها والكعب بهو نفانف بعطف الكعب على الضمير في بينها. وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) بالجر، لأخذت نعلي ومضيت. وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراء الجر فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تواترا، ولا يخفي عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب كما تقدم، وكما في قول بعضهم:
وحسبك والضحاك سيف مهند وقول الآخر: وقد رام آفاق السماء فلم يجد * له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا وقول الآخر: ما إن بها والأمور من تلف وقول الآخر: أكر عبد على الكتيبة لست أدري * أحتفى كان فيها أم سواها فسواها في موضع جر عطفا على الضمير في فيها، ومنه قوله تعالى - وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين -. وأما قراءة النصب فمعناها واضح جلى لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف: أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنها مما أمر الله به أن يوصل، وقيل إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله (به) كقولك مررت بزيد وعمرا: أي اتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام. والأول أولى. وقرأ عبد الله ابن يزيد والأرحام بالرفع على الابتداء والخبر مقدر: أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل، وقيل إن الرفع على الاغراء عند من يرفع به، ومنه قول الشاعر:
إن قوما منهم عمير وأشباه * عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قال * أخ النجدة السلاح السلاح