الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال - ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا - الآية، يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى انتهى. وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله - فقد جعلنا لوليه سلطانا - أنه جعل السلطان له: أي جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل، ولهذا قال - فلا يسرف في القتل - ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخا لها، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده، وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه.
في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله والباء في قوله (بأيديكم) زائدة، والتقدير: ولا تلقوا أيديكم، ومثله - ألم يعلم بأن الله يرى - وقال المبرد (بأيديكم) أي بأنفسكم تعبيرا بالبعض عن الكل، كقوله - بما كسبت أيديكم - وقيل هذا مثل مضروب، يقال فلان ألقى بيده في أمر كذا: إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقى سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان وقال قوم: التقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم. والتهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة: أي لا تأخذوا فيما يهلككم. وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها، وبيان سبب نزول الآية. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري. ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها، وهو ظن تدفعه لغة العرب. وقوله (وأحسنوا) أي في الإنفاق في الطاعة، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم.
وقد أخرج عبد بن حميد والبخاري والبيهقي في سننه عن حذيفة في قوله (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال: نزلت في النفقة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في الشعب عنه قال: هو البخل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير نفقة، فإما يقطع لهم، وإما كانوا عيالا، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة. والتهلكة: أن تهلك رجال من