الاستفهام هنا للتقدير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر. والمعنى عند سيبويه: تنبه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل. وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء: أي ألم ينته علمك إليهم، أو معنى الوصول: أي ألم يصل علمك إليهم، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية: أي ألم تنظر إلى الذين خرجوا. جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد، أو المبصرة لكل مبصر، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودونوها وأشهروا أمرها، والخطاب هنا لكل من يصلح له.
والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب ادعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب.
وقوله (وهم ألوف) في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا، وألوف من جموع الكثرة، فدل على أنها ألوف كثيرة. وقوله (حذر الموت) مفعول له. وقوله (فقال لهم الله موتوا) هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا. قوله (ثم أحياهم) هو معطوف على مقدر يقتضيه المقام: أي قال الله لهم موتوا فماتوا ثم أحياهم، أو على قال لما كان عبارة عن الأمانة وقوله (إن الله لذو فضل على الناس) التنكير في قوله فضل للتعظيم: أي لذو فضل عظيم على الناس جميعا، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا، وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء، قوله (وقاتلوا في سبيل الله) هو معطوف على مقدر كأنه قيل اشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا، هذا إذا كان الخطاب بقوله (وقاتلوا) راجعا إلى المخاطبين بقوله (ألم تر إلى الذين خرجوا) كما قاله جمهور المفسرين، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد، وقيل إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل فيكون عطفا على قوله (موتوا) وفي الكلام محذوف تقديره وقال لهم قاتلوا. وقال ابن جرير:
لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. وقوله (من ذا الذي يقرض الله) لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، و " من " استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و " ذا " خبره، و " الذي " وصلته وصف له أو بدل منه، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانا: أي أعطاه ما يتجازاه. قال الشاعر:
* وإذا جوزيت قرضا فاجزه * وقال الزجاج: القرض في اللغة: البلاء الحسن والبلاء السيء.
قال أمية:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا * أو سيئا ومدينا مثل ما دانا وقال آخر:
فجازى القروض بأمثالها * فبالخير خيرا وبالشر شرا وقال الكسائي القرض: ما أسلفت من عمل صالح أو سئ، وأصل الكلمة القطع، ومنه المقراض واستدعاء