وقال آخر: لكل هم من الهموم سعة * والصبح والمساء لا فلاح معه وقيل رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة، وقيل رجع إلى المصدر المفهوم من قوله (واستعينوا) وهو الاستعانة، وقيل رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل. والكبيرة التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة، ومنه - كبر على المشركين ما تدعوهم إليه -. والخاشع: هو المتواضع، والخشوع: التواضع. قال في الكشاف والخشوع: الإخبات والتطامن، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة وأما الخضوع: فاللين والانقياد، ومنه خضعت بقولها: إذا لينته انتهى. وقال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى، ومكان خاشع: لا يهتدي إليه، وخشعت الأصوات: أي سكنت، وخشع ببصره: إذا غضه، والخشعة: قطعة من الأرض رخوة. وقال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطئ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنئ في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك انتهى. وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته: إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع، واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم لأنفسهم إتعابا عظيما في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حر السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم:
ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي جنب كان في الله مصرعي والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى - إني ظننت أني ملاق حسابيه - وقوله - وظنوا أنهم مواقعوها - ومنه قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم بالفارسي المسود وقيل إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي، والأول أولى. وأصل الظن: الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية. ومعنى قوله (ملاقوهم ربهم) ملاقوا جزائه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأسا. وفي هذا مع ما بعده من قوله (وأنهم إليه راجعون) إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (واركعوا) قال: صلوا. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مقاتل في قوله (واركعوا مع الراكعين) قال: أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد يقول: كونوا منهم ومعهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر) الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه. وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: أثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل، يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وأخرج ابن جرير عنه