لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمردا وعنادا مع علمهم بأنهم ليسوا على شئ، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبدا. وقوله (وما أنت بتابع قبلتهم) هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهى من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب، وقطعا لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصة الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته. قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس انتهى. وقوله (ولئن اتبعت أهواءهم) إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شئ من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية وقوله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) قيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: أي يعرفون نبوته. روى ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم، وقيل يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأول. وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات. وقوله (ليكتمون الحق) هو عند أهل القول الأول نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة. وقوله (الحق من ربك) يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله " من ربك " أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره. وقرأ علي بن أبي طالب الحق بالنصب على أنه بدل من الأول أو منصوب على الإغراء أي الزم الحق. وقوله (فلا تكونن من الممترين) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
(١٥٤)