ذريتي ماذا يكون يا رب؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية مأخوذة من الذر، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذر، وقيل مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز - فأصبح هشيما تذروه الرياح - قال في الصحاح: ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا: أي نسفته، وقال الخليل: إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل الإمامة، وقيل النبوة، وقيل عهد الله أمره، وقيل الأمان من عذاب الآخرة، ورجحه الزجاج والأول أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لابد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه انتهى. ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالما، وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. قوله (وإذا جعلنا البيت) هو الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، و (مثابة) مصدر من ثاب يثوب مثابا ومثابة، أي مرجعا يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة: مثاب لأقفاء القبائل كلها * تخب إليها اليعملات الذوابل وقرأ الأعمش " مثابات " وقيل المثابة من الثواب: أي يثابون هنالك. وقال مجاهد: المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الشاعر:
جعل البيت مثابات لهم * ليس منه الدهر يقضون الوطر قال الأخفش: ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره: هي للتأنيث وليست للمبالغة. وقوله (وأمنا) هو اسم مكان: أي موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى - ومن دخله كان آمنا - وقيل إن ذلك منسوخ. وقوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض: أي جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفا على اذكروا المذكور أول الآيات، أو على اذكروا المقدر عاملا في قوله (وإذ) ويجوز أن يكون على تقدير القول: أي وقلنا اتخذوا. والمقام في اللغة: موضع القيام. قال النحاس، وهو من قام يقوم، يكون مصدرا واسما للموضع، ومقام من أقام، وليس من هذا قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها * وأندية ينتابها القول والفعل لأن معناه أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل المقام الحج كله، روى ذلك عن عطاء ومجاهد، وقيل عرفة والمزدلفة، روى عن عطاء أيضا. وقال الشعبي: الحرم كله مقام إبراهيم. وروى عن مجاهد.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي