والثاني: أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به، هو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد العبد عليه، وجب الوفاء به، والوعد من العهد (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) أي: بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، ووكدت الشئ توكيدا، لغة أهل الحجاز. فأما أهل نجد، فيقولون: أكدته تأكيدا. وقال الزجاج: يقال: وكدت الأمر، وأكدت، لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها.
قوله تعالى: (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) أي: بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه. وللمفسرين في معنى " كفيلا " ثلاثة أقوال:
أحدها: شهيدا، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: وكيلا، قاله مجاهد.
والثالث: حفيظا مراعيا لعقدكم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها) قال مجاهد: هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إحداهن حبلها، ثم تنقشه، ثم تخلطه بالصوف فتغزله. وقال مقاتل: هي امرأة من قريش تسمى " ريطة " بنت عمرو بن كعب، كانت إذا غزلت، نقضته. وقال ابن السائب: اسمها " رائطة " وقال ابن الأنباري: اسمها " ريطة " بنت عمرو المرية، ولقبها الجعراء، وهي من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين، فعرفوها بوصفها، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك، كانت متناهية الحمق، تغزل الغزل من القطن أو الصوف فتحكمه، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه. وقال بعضهم: كانت تغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، فضربها الله مثلا لنا قضي العهد. و " نقضت "، بمعنى: تنقض، كقوله: (ونادى أصحاب الجنة) بمعنى: وينادي.
وفي المراد بالغزل قولان:
أحدهما: أنه الغزل المعروف، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر، وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه الحبل، قاله مجاهد. وقوله: (من بعد قوة) قال قتادة: من بعد إبرام، وقوله:
(أنكاثا) أي: أنقاضا. قال ابن قتيبة: الأنكاث: ما نقض من غزل الشعر وغيره. وواحدها: نكث.
يقول: لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت، ثم نقضت ذلك النسج، فجعلته أنكاثا.
قوله تعالى: (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) أي: دغلا، ومكرا، وخديعة، وكل شئ دخله عيب، فهو مدخول، وفيه دخل.