هذه الأحاديث وردت لغاية أرقي مما يراها الذين لا يفكرون، كم أمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة وصورة مفرحة و بهجة وجمال، ومن قرأ كتاب (كليلة ودمنة) الذي لم تخل منه مدرسة من مدارس العالم الشرقي والغربي في الوقت الحاضر إلا لها حظ من قراءته.
أقول: من قرأ هذا الكتاب عرف مقدرة الفيلسوف الهندي، وكيف جاء بالسياسة ونظام المدنية والعلوم الاجتماعية في قوالب المحادثات الحيوانية، فتارة يجعله في هيئة محاورة بين ثور وأسد، وتارة بين حمامة وغراب، وسلحفاة و فأرة، وهكذا مما سر العامة بظاهره الطلي الجميل، وعلم الحكماء والعلماء بباطنه القويم.
ولكن ليس ذلك (أي التعبير النبوي) كما في (كليلة ودمنة) الذي يفرح به الجهال، ولكن الحكماء يرون الباطن هو المقصود، والظاهر منبوذ، لأن البهائم لا تتكلم بداهة، كلا ثم كلا بل هنا ظاهر القول حق، وباطنه حق.
الجاهل يسمع الدر والياقوت وشرابا أحلى من العسل، فيفرح به فيعبد الله ليصل إلى هذه اللذات، وهذا الجاهل أكثر أهل هذه الأرض، والعالم ينظر فيقول:
إن هذا القول وراءه حكمة، وراءه علم، لأنني أرى في خلال القول عجائب، فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء؟ وأي دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبر به؟ ثم يقول: لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض يكونون عليهم آثار الوضوء؟ ثم يقول: لماذا ذكر أن عدد الآنية يكون أكثر من نجوم السماء؟ ولماذا هذه المحافظة كلها على عدد نجوم السماء؟
إذن يقول: لا، لا، الحق أن نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يريد أمرين: أمرا واضحا جليا يفرح به جميع الناس، وأمرا يختص بالقواد والعظماء، إن النبوة بأمر الله، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوما، وكل