نتائج معركة بحيرة الحولة وبانسحاب أبي الذهب تبدل موقف الأمير يوسف الشهابي من الصراع السياسي الدائر في بلاد الشام، فتخلى عن موقف الترقب والتبصر وجاهر بعدوانه للزعيم الزيداني (1) كما بدأ مربيه ومستشاره الشيخ سعد الخوري في دس الدسائس وتخريب زعماء طوائف الجبل السبع لصالح الأمير الشاب (2).
وبدعوة من الأمير منصور الشهابي اجتمع هؤلاء الزعماء وتخلى أمامهم عن كافة صلاحياته في الحكم، واعترف بسلطة ابن أخيه الأمير يوسف على سكان جبل الدروز (3). وبذلك أصبح الأخير حاكما على المقاطعات اللبنانية الشمالية والجنوبية من ظاهر طرابلس إلى ظاهر صيدا.
ازدادت مخاوف الشيخ ظاهر العمر الزيداني بعد تولي الأمير يوسف مكان عمه الأمير منصور، في حين كان والي دمشق عثمان باشا يرغب في إعادة سلطته على جميع أجزائه ولايته، فاقترب صدام الفريقين (4). وزحف الباشا بقواته لاستعادة الأقاليم التي كان قد استولى عليها الشيخ الزيداني من ولاية دمشق وأقام معسكره على الشاطئ الغربي لبحيرة الحولة (5)، لكن قوات ظاهر العمر وناصيف النصار انقضت على معسكر الباشا في آخر ليلة من شهر آب (أغسطس) 1771 وأنزلت الهزيمة بقواته (6).
وقد رصدت الوثائق الفرنسية الصادرة عن صيدا، تأثير الانتصار على مدينة صيدا بقوله:
"... حملاتهم الناجحة أثارت الحزن لدى سكان صيدا، وانتشر الرعب والخوف في هذه المدينة وضواحيها من عودة الحرب ومآسيها، وانعكس هذا الوضع على تجارتنا وعلى استقرارنا فقد أصبنا بنكسات بالغة الشدة وتوقفت الأولى تماما... " (7).
وازدادت مخاوف والي صيدا درويش باشا حين بلغه نبأ وصول ما يقارب الألفين إلى الثلاثة آلاف جندي مصري إلى غزة، ورسو سبعة عشر مركبا محملة بالمؤن في يافا، وبأن جميع هذه القوات سوف تحضر إلى صيدا لمحاصرته برا وبحرا (8).
وفي العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1771 أمر ظاهر العمر المراكب المصرية بالتوجه من يافا إلى صور ومن هناك إلى صيدا، وطلب من العامليين الاجتماع به في المعسكر العام الذي سيقيمه على بعد ثلاث ساعات من صيدا (9).
وخشي درويش باشا أن يسيطر أعداء والده على صيدا، وأن يتعرض لانتقامهم، فقرر مغادرة المدينة واللجوء إلى دمشق (10). وعقد الديوان (11) وأطلعه على رغبته، ولكن الأعضاء رفضوا الموافقة على ذلك، وتم الاتفاق على إرسال ضابطين إلى معسكر ظاهر العمر للاستفسار عن نواياه الحقيقية (12).
وفي الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عاد المبعوثان ومهما جواب الشيخ ظاهر إلى درويش باشا، وفيه أن عداوة الشيخ لوالي دمشق عثمان باشا تجبره على أن لا يجعل ابنه والي صيدا يدفع الثمن، ولكنه ينذره بمغادرة المدينة مع جميع رجاله بعد يومين، وله الخيار بالانسحاب، إما إلى جبل الدروز أو إلى جبل عامل، وإذا عاند ورفض هذه الشروط، فسوف يكون الضحية الأولى وسبب المصائب التي سوف تصيب السكان (13).
وفي يوم الثالث عشر من تشرين الأول شعر الباشا باقتراب الساعة المحددة له لمغادرة صيدا، فتركها ظهرا وسلم إدارتها إلى سلطاتها لكي تسلمها إلى أول من يطلبها منها (14)، ثم التقى عند نهر الأولي بفرقة من جبل الدروز يقدر عددها بحوالي أربعمائة رجل، منعوه من متابعة سيره، وأعلموه بأنهم مرسلون من قبل الأمير يوسف (15).
وفي الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) حضر الأمير أفندي الشهابي وطلب من درويش باشا دخول صيدا معه، وأرسل فرقة خيالة ليدخلوا إلى المدينة ويبلغوا من فيها عودة الباشا (16). وحاولت القوات الموجودة في داخل صيدا منعهم من الدخول، بحجة أنهم لن يسلموها إلا للأمير يوسف أو للشيخ ظاهر، اللذين كانوا يتوقعون دخولهما إليها في ذلك اليوم. وبعد التهديد والوعيد تمكن خيالة الأمير أفندي دخول المدينة، ثم تبعهم بعد نصف ساعة الأمير أفندي من والباشا يصحبهما ألف فارس. وكان ذلك مفاجأة للشيخ ظاهر، فعاد إلى عكا وترك حلفائه العامليين في المعسكر، وما لبث أن انسحب هؤلاء بدورهم (17).
معركة النبطية.
وكان ما حدث بمثابة انتصر معنوي للأمير يوسف الشهابي، فوجه إليه الباب العالي خطا شريفا يأمره فيه بمهاجمة جبل عامل، ويعفيه مقابل ذلك عن ميري بلاده لمدة سنتين (18). وفي التاسع عشر من تشرين الأول عام 1771 تجمعت القوات التي طلبها الأمير يوسف، وبعد أن ترك في صيدا الشيخ علي جنبلاط ومعه ألف وخمسماية مقاتل لحراسة المدينة من أي عدوان مفاجئ،