كبار علماء الجبل كالسيد أبي الحسن جد آل الأمين والسيد فخر الدين العيناتي، هكذا أسماه المؤرخون ويبدو أنه جد آل فضل الله والشيخ محمد الحانيني والشيخ الخاتوني والسيد حيدر نور الدين وتداولوا مع ناصيف النصار الأمر ويظهر أنهم رأوا أن يتظاهروا بالشدة وأن يتعاملوا باللين، فأضرموا في الليل النيران في الجبل المطل على معسكر أبي الذهب في الحولة، وامتدت النيران من هونين إلى ديشوم، وأرادوا باضرامها التظاهر بكثافة الجموع المحتشدة. ثم أعقبوا ذلك بأن توجه ناصيف النصار وحده لا يصحبه إلا رجل واحد من بيت الحاج من قرية شحور إلى مخيم أبي الذهب، وتقدم ناصيف إلى " كاخية " أبي الذهب، وقال له: أنا ناصيف النصار، وهذا سيفي في عنقي ولا نريد حربا مع أبي الذهب، فخذني إليه.
فقال له الكاخية: ان الباشا يموت فاذهب فليس عليك بأس، فعاد ناصيف، ومات أبو الذهب، في ليلته تلك، وحنطت جثته وأرسلت إلى القاهرة ودفنت في المدرسة التي أنشأها تجاه الأزهر.
وكان العامليون حين علموا بتوجه أبي الذهب إليهم خافوا خوفا شديدا لضآلة قوتهم أمام قوى أبي الذهب، وتحسبوا لكل شر وبلاء. وليس أكثر دلالة على ذلك من أنهم أرخوا تلك السنة وهي سنة 1189 هجرية، بهذه الكلمات: (سم، هم، غم). كما أن أحد مؤرخيهم قال يصف الواقع:
" أبو الذهب تعب في سطوته جميع العجم والعرب، وما أحد إلا ونزل به الهم والكرب، وحل بالناس الويل والعطب، وكل يقول: الهرب ثم الهرب ما دام أبو الذهب لنا بالطلب ".
وقال الدكتور حسين سلمان سليمان:
شهدت سنوات الثلث الثاني من القرن الثامن عشر انقسام ولايات الشام العثمانية إلى حزبين، الأول برأسه عثمان باشا الصادق في دمشق ويضم باشاوات حلب وطرابلس وصيدا والقدس وبغداد والموصل، والثاني يرأسه ظاهر العمر في عكا ويسيطر على القسم الجنوبي من فلسطين حول عكا وصفد وطبرية وغزة (1)، وأتباعه مشايخ بلاد صفد عشائر جبل عامل، وأكثر قبائل الرحل ويؤيده علي بك الكبير بمماليكه في مصر. (2) وانعكس هذا الانقسام على أمراء الأسرة الشهابية في جبل الدروز، فبينما اعتمد الشيخ سعد الحوري وسيده الأمير يوسف الشهابي على عثمان باشا في مناهضة أمير جبل الدروز منصور الشهابي وإزاحته عن منصبه والحلول مكانه، كان موقف الأخير يتحدد إلى حد بعيد بالمساعدات التي كان يتلقاها من والي صيدا السابق محمد باشا العظم. ولما يكن أمير جبل الدروز يجرؤ على مقاومة العثمانيين، فقد اتبع الأساليب المألوفة في هذا المجال، أي التظاهر بمظهر المخلص لهم في حين كان يساعد في الخفاء عدوهم ظاهر العمر، (3) ومما ينبغي الإشارة إليه أن أحدا من زعماء حزب المتمردين (ظاهر العمر وعلي بك الكبير وناصيف النصار) تجرأ وأعلن استقلاله عن السلطان العثماني، رغم السلطة التي تمتع بها كل منهم في منطقة نفوذه، وإنما كانوا يعلنون العصيان العلني على ممثلي السلطة العثمانية في مناطقهم، بحجة الظلم والاضطهاد اللذين يتعرضون لهما من قبل هؤلاء، والسبب في امتناعهم عن إعلان العصيان على السلطان العثماني، أنه مهما بلغ ضعفه السياسي والعسكري، كان لا يزال زعيم المسلمين، وأن عصيانه من شأنه أن يؤلب الرأي العام الإسلامي ضد هؤلاء المتمردين. (4) سقوط دمشق وانضمت القوات العاملية وجنود أبناء ضاهر إلى الحملة المملوكية التي أرسلها علي بك الكبير لاحتلال بلاد الشام، وفي 25 نيسان (أبريل) عام 1771 قرر العامليون غزو مدينة صيدا ليلا، وعلم الوالي درويش عثمان باشا بقرارهم هذا عن طريق الشيخ قبلان، حاكم مدينة صور، الذي كان يقف على الحياد في الصراع الدائر على النفوذ في بلاد الشام. فاتخذ الباشا الاستعدادات اللازمة، فاستنفر قواته ووضعها على أبواب المدينة الثلاثة، ونظرا لانشغال والده وشقيقه بالاستعداد لصد القوات المصرية، استنجد بالأمير يوسف شهاب للمساعدة بالدفاع عن المدينة إذا تعرضت للهجوم المتوقع فحضر الأخير إلى صيدا ومعه بضع مئات من أنصاره، كان بإمكانه أن يزيد عددها عند الخطر، بالاستعانة بخمسة عشر ألف رجل من أتباع الشيخ علي جنبلاط. لم يترك الأمير يوسف الشهابي مدينة صيدا إلا بعد أن حضر عثمان باشا بقافلة الحج الشامي إلى دمشق (5).
وفي الخامس والعشرين من شهر أيار (مايو) 1771 أشيع في صيدا أن القوات المملوكية سوف تقوم بمهاجمة المدينة ليلا بمساعدة العامليين، وأظهر والي صيدا شجاعته، واستنفر قواته واستحضر المدافع ووضعها على التحصينات القديمة التي تشرف على الأرياف، وضاعف الحراسة على أبواب المدينة. وأشارت الوثائق الفرنسية المعاصرة بأن " كل هذه الاستعدادات لن تؤدي إلى أية نتيجة فعالة، ما لم يبادر الدروز إلى صد الهجوم المتوقع " (6).
واستعان درويش باشا والي صيدا بأتباع الأمير يوسف، لكن هؤلاء كانوا غير راغبين في مساعدته، لأن والده، عثمان باشا والي دمشق، أغار على مدينة بعلبك التي كان حاكمها أمير من آل الحرفوش من أنصار الأمير يوسف، وطالب الأخير بإصلاح الخطأ الذي ارتكب بحق حليفه. وأشارت الوثائق الفرنسية الصادرة عن صيدا في هذا الوقت إلى ذلك بقولها: " هذه المدينة (أي صيدا) ليست بعيدة تماما عن الخطر الذي يتهددها، إذا لم يبادر عثمان، باشا دمشق، إلى تحويل الاستياء العام الذي يسود جبل الدروز ".
وبعث عثمان باشا برسائل إلى الأمير يوسف، كان لها وقعها في إعادة الوئام بينهما، وفرحت المدينة بذلك، ورغم ذلك ظل الخوف والرعب