وكان يطالب بذلك من مركز قوة بعد انتصاره على عثمان باشا والي دمشق، وكان لهذا الانتصار صدى بالغ عند علي بك الكبير.
ويبدو أن علي بك لما اطمأن إلى مناعة حليفه في بلاد الشام أراد أن ينطلق في ميدان آخر يضمن له بسطه في الملك وسعة في الحكم فاتجهت أنظاره إلى الحجاز، فوجه إليه في شهر صفر سنة 1148 ه (1770 م) حملة ناجحة استطاعت الاستيلاء على الحجاز وإقامة شريف في مكة يأتمر بأمر حاكم مصر هو الشريف عبد الله، الذي اعطى بما له من سلطة روحية لقب سلطان مصر وخاقان البحرين " لعلي بك الكبير.
وبعد هذا النجاح أخذ علي بك يتهيأ لحملة بلاد الشام، وجاء في مخطوط هذا النص: " وكان علي بك عزم على العصيان للدولة وطمع في تملك بلاد العرب ". مما يدل على ذيوع أهداف علي بك وانها عمل يؤدي بالاستقلال في البلاد العربية.
وفكر في الاستعانة على تحقيق أهدافه بالإمبراطورة كاترينا إمبراطورة روسيا على أن ترسل إليه المهندسين لاستخدامهم في الحصار، والضباط لتنظيم جيشه تنظيما حديثا، ولكن هذه الفكرة لم تسفر عن شئ عملي.
وأراد علي بك أن يجد المبرر لحملته فأرسل في آذار سنة 1767 إلى الباب العالي يشكو من عثمان باشا والي دمشق محتجا بأن بعض المصريين المطرودين استقبلهم عثمان باشا وشجعهم. كما أراد أن يستغل عواطف الشعب الشامي الذي كان يشكو من مظالم عثمان باشا، فاصدر منشورا في كانون الأول سنة 1770 يبشر به الشاميين بسعيه لإنقاذهم من الظلم.
وتتشابك الروايات هنا فيبدو من المصادر القديمة المخطوطة أن عثمان باشا والي الشام هو الذي بادر إلى تحدي ظاهر العمر، وربما كان ذلك اتفاقا مع الدولة ردا على مطالب ظاهر العمر التي ذكرناها، وان عثمان باشا اتفق مع أمراء الشوف في لبنان وعزموا على غزو ظاهر، وان هذا أرسل يستنجد بعلي بك وأنه انجده بحملة يقودها إسماعيل بك قوامها عشرة آلاف مقاتل، طليعة للحملة الكبرى، فأرسل ظاهر أولاده فقدموا مع إسماعيل بك إلى عكا، لكن هذا تباطا في انجاد ظاهر العمر وتعلل ببعض العلل وكان علي بك جهز حملة يقودها محمد أبي الذهب زحفت على الشام عبر الصحراء، كما أرسل سفنا لنقل الميرة من دمياط إلى عكا.
ويقول كتاب " الحملة الفرنسية " بأن عدد الجنود المصريين كان أربعين ألفا، ويقول مصدر آخر: " خرجت العساكر المصرية قاصدة بلاد الشام يقودها محمد بك أبو الذهب والتقى أولا بالسناجق المرسلة (بقيادة إسماعيل بك). وجاء أولاد ظاهر العمر ومشايخ المتأولة (العامليين) وانضموا إليه فصار جيشه ينيف على ستين ألفا. وهذا المصدر لم يحدد عدد الجنود المصريين فإذا أخذنا بما جاء في المصدر الأول يكون عدد المنضمين من جنود فلسطين وجنود جبل عامل عشرين ألفا.
وتقدم محمد أبو الذهب بحملته المصرية العاملية الفلسطينية طالبا دمشق فاشتبك بقوى عثمان باشا فهزمها، ثم خيم حول دمشق، وأرسل إلى الدمشقيين كتابا احضره من علي بك يتضمن ذما لعثمان باشا واستنصارا بالدين عليه، قائلا أن المذاهب الأربعة أفتت بقتالة وان الأمة لا تجتمع على الضلالة فاستخرنا الله وسألناه أن ينصر دين محمد بعلي (يعني نفسه)، فخرج الدمشقيون إلى أبي الذهب مستأمنين فأمنهم ودخل دمشق في نهاية تشرين الثاني سنة 1771 وتقدم إلى القلعة وكان جنوده يحاصرونها فاستسلمت وفر عثمان باشا إلى حمص.
كان النصر إلى حد ما حاسما، إذ استطاع أبو الذهب أن يهزم قوى الدولة متمثلة بعثمان باشا، كما اجتاز فلسطين، وأصبح الطريق مفتوحا أمامه لاستصفاء بلاد الشام كلها.
وهنا حدثت المفاجأة وكانت وستظل لغزا من الألغاز، فإن محمد أبو الذهب وهو في قمة انتصاره بدلا من أن يواصل الزحف متوغلا في سوريا، إذا هو يعلن الانسحاب إلى مصر واهدار النصر إهدارا كاملا.
واختلفت الأقوال في أسباب التراجع فنسبة بعضهم إلى تأثير إسماعيل بك قائد الحملة الأولى الذي رفض من أول الأمر القتال مع ظاهر العمر، وأنه أخذ يخوف أبا الذهب عاقبة الأمر والخروج على السلطان، وأنه كان يستغل بعض التصرفات ويحذره من ظاهر العمر قائلا له: انظر كيف يجلس علي الظاهر في مجلسك كأنه في مجلس بعض الصعاليك.
ومهما يكن من أمر فان محمد أبو الذهب انسحب من دمشق وعاد في طريقه التي جاء منها متجها إلى مصر.
وأسقط في أيدي الفلسطينيين والعامليين وعاد كل منهم إلى بلاده.
ولسنا الآن في صدد تدوين الأحداث التي وقعت من بعد بين علي بك وأبي الذهب وإنما نكتفي بالقول، ان عودة أبي الذهب إلى مصر بمثل ما عاد به من الخيانة أدت إلى نشوب صراع بينه وبين علي بك، كانت نهايته انهزام علي بك ولجوءه مع فريق من جنوده إلى حليفه ظاهر العمر وتعاونهما في فلسطين على قتال العثمانيين. ثم عودته إلى مصر مزود بنجدات من ظاهر العمر، فتلقاه أبو الذهب وهزمه، ثم لم يلبث أن مات في 15 صفر سنة 1187 ه (1773) متأثرا بجراحه التي أصابته خلال المعركة.
أما أبو الذهب فيبدو أن أحلام علي بك الكبير عاودته هو نفسه فطمع بالاستيلاء على بلاد الشام، ولكن لا تحالفا مع ظاهر العمر وناصيف النصار، بل حربا عليهما. فخرج في آذار سنة 1775 وتقدم إلى فلسطين وانتصر على ظاهر العمر في يافا وتقدم نحو عكا فانسحب منها ظاهر متحاشيا الاصطدام بأبي الذهب. ولم يجد ظاهر ملجا له إلا عند حلفائه العامليين فقصد جبل عامل وحل في قلعة هونين ضيفا على الشيخ قبلان.
وبعد انتصار أبي الذهب على الفلسطينيين بقي أمامه ناصيف النصار حليف ظاهر، وفي رواية عاملية، ان ناصيف قصد إلى عكا متصلا بأبي الذهب وأن أبا الذهب احتفى به وأكرمه. والواقع أنه بعد هزيمة ظاهر العمر لم يكن للعامليين قبل بمحاربة أبي الذهب فكان لا بد لهم من معالجة الأمر بالوسائل السلمية، ولا ندري حقيقة ما حدث في عكا بين ناصيف وأبي الذهب، فإن رواية أخرى تقول أن أبا الذهب منع ناصيف من الرجوع إلى أن يأتي جميع الزعماء العامليين.
على أن ما لا شك فيه أن أبا الذهب كان مصمما على الزحف على جبل عامل سالكا إليه طريق الحولة وكان لا بد من أعمال الروية والحكمة فاجتمع