مسيطرا على درويش باشا، وامتنع عن الطعام والنوم، وكان يبكي لأبسط الأمور (1).
وفي الأول من حزيران (يونيو) 1771 تلقى والي دمشق عثمان باشا إنذارا من محمد أبي الذهب، قائد القوات المصرية الزاحفة على بلاد الشام، بأن علي بك الكبير قد عينه حاكما لدمشق، وأن على الباشا أن يغادر المدينة فورا ليريح السكان من أذيته (2).
وفي هذه الأثناء كان القلق يزداد لدى سكان صيدا كلما اقترب المصريون من عكا، ويتساءلون إلى أي مدى ستتقدم قوات أبو الذهب؟ ألم تزحف بعد إلى صيدا؟ وترك تجمع القوات المثحالفة حول دمشق بعض الراحة لدى سكان صيدا، وتمنى الجميع حصول عمل حازم، وتوقفت التجارة في المدينة (3).
وفي 7 حزيران (يونيو) 1771 تعرضت القوات المدافعة عن دمشق لهزيمة ساحقة في داريا، وانعكس صدى سقوط دمشق على سكان مدينة صيدا الذين كانوا يستعدون للدفاع عنها، فأصيبوا بالذهول حين بلغهم في الحادي عشر من حزيران نبأ سقوط دمشق (4).
وقرر درويش باشا الخائف، الهروب إلى الأمير يوسف الشهابي الذي سوف يؤمن له المجأ لديه، واستعد لذلك في مساء العاشر من حزيران، لكن سكان المدينة منعوه، وليس ذلك بسبب تركه لهم، ولكن لإجباره على دفع ثمن المفروشات التي أرغمهم على صنعها له، ونام في المدينة، وأذاع بأنه لن يغادرها، ولكنه في الواقع كان ينتظر معونة درزية تسهل له الخروج، وكان يعلق الآمال على الأمير يوسف (5).
وخشي القنصل الفرنسي في صيدا من نوايا السكان السيئة تجاه الجالية الفرنسية، وما قد يترتب على ذلك إذا صحت الإشاعات التي كانت تصله بأن الخان الفرنسي سوف يتعرض للنهب، فجمع التجار الفرنسيين في العاشر من حزيران (يونيو)، وأحاطهم علما بمخاوفه تلك، واستشارهم فيما يجب القيام به للحفاظ على أنفسه وممتلكاتهم، وبعد المداولات رفع المجتمعون بمخاوفهم إلى سلطات المدينة، التي طمأنتهم وضاعفت الحراسة على الخان ومنزل القنصل (6).
وفي نفس الوقت كتب القنصل الفرنسي في صيدا إلى زميله في القاهرة أميرات، للاتصال بعلي بك لكي يصدر رسائل توصية إلى فائدة أبي الذهب في بلاد الشام، لكي تنعم الجالية الفرنسية في بلاد الشام بالحماية نفسها والامتيازات الممنوحة لها من قبل العثمانيين (7).
وبهروب درويش باشا لم تعد مدينة صيدا تنتظر، سوى تدوم ضابط من قبل محمد بك أبي الذهب لإخضاعها لسلطته، وأصيب السكان بالذعر.
وأغلق القنصل الفرنسي الخان، بانتظار رؤية الهدوء في شكل الحكومة التي سوف تجعله بعيدا عن الخطر، وكان خوفه من الفاتحين الجدد أقل من خوفه من السكان (8).
وتسلم حكم مدينة صيدا أحمد آغا حمود، وهرب معظم السكان بنسائهم وأطفالهم، أشاع المتسلم الجديد النظام، مما حفظ الجالية الفرنسية من تعرضها لأي خطر. واتفق السكان على عدم مقاومة القوات المنتصرة، كما اتفق المتسلم وباقي سلطات المدينة على تسليمها لحجب دم السكان، ووضع أحمد آغا حراسة على الخان الفرنسي، بانتظام قدوم مكلفين من قبل القائد أبي الذهب لحكم لمدينة (9). وكتب الشيخ علي جنبلاط إلى المتسلم يوصيه، بحسن معاملة الجالية الفرنسية والسهر على عدم تعرضها لأية إهانة من قبل السكان (10).
وأرسل الشيخ ظاهر العمر جمركيا من قبله، يرافقه ثلاثة مشايخ من العامليين لإدارة حكم صيدا (11). وفي اليوم الثالث عشر من حزيران أرسل ضابطا من قبله جدد تعيين أحمد آغا حمود كمتسلم للمدينة من قبل الشيخ ضاهر، أذاع في نفس الوقت بأن يطمئن الجميع، وبأن يعود الهاربون إلى صيدا، وأن تستمر الأعمال كما كانت في السابق دون أن يعركها شئ. ثم دخل العامليون إلى المدينة وأقاموا في السراي، وكان يرافقهم ما بين مئة ومئة وخمسين فارسا مما أثار حفيظة رعايا جبل الدروز (12).
وفي الوقت الذي كان من المنتظر فيه أن يتابع محمد بك زحفه، أعلن يوم الثلاثاء 5 ربيع الأول 1185 ه / 18 حزيران 1771 م الانسحاب، دون أن يترك أحدا من قبله في دمشق بل سلم سلطاتها إلى آغا القلعة (13)، مبررا حملته على بلاد الشام:
"... إنه كان سبب مجيئنا لهذه البلاد الشامية لأجل مقابلة عثمان باشا، فلو خرج لنا للخارج ما قارشناكم (قاتلناكم)، وتعرضنا للقلعة أخبرونا أن بها عثمان باشا وأمواله، فلما تحققنا دهابه وأنه ليس بها رفضنا التعرض، وما مرادنا بلدتكم ولا إضراركم وأديتكم... " (14).
ويبدو أن الشيخ علي جنبلاط قد علم بانسحاب القائد المصري، فأرسل في العشرين من حزيران (يونيو) اثنين من أبنائه ومعهما ثلاثماية نفر من رعايا جبل الدروز، لطرد جمركي ظاهر ومشايخ جبل عامل المتواجدين في صيدا.
وبعد التشاور أرسل رعايا جبل الدروز إلى عمال ظاهر في المدينة إنذارا بمغادرتها، فتركها هؤلاء على الفور سعيدين بنجاتهم من رعايا جبل الدروز (15).
وعادت الحركة إلى مدينة صيدا، وحاول السكان إلحاق الأذى بالعامليين والصفديين، ولكن رعايا جبل الدروز حالوا بينهم، وهدأوا الأمور ومنعوا الأهالي من إلحاق أي سوء بالفارين. وبعد اجتماع أهالي صيدا مع التمسلم أحمد آغا حمود أذاع الأخير بيانا باسم السلطان، بأن يعود الجميع إلى أعمالهم، وأرسل حرسا من قبله لحماية الخان الفرنسي من أية إهانة أو أذية (16).
وشعر السكان بالطمأنينة من الحماية التي أمنها لهم الزعيم الجنبلاطي، الذي أبقى أبناءه في المدينة، إلى حين قدوم حاكم شرعي من قبل السلطات العثمانية. وكان الجميع يطالب بضرورة إقالة عثمان باشا والي دمشق وأبنائه درويش ومحمد في صيدا وطرابلس، بسبب سلوكهم السئ والظلم الذي ألحقوه بالسكان (17).