عثراتهم، فليس من كانت زلته بادرة، وخطيئته مبتكرة كمن كان في الغي متهوكا، وبعرا الاصرار عليه متمسكا، ومن صادفه جاهلا بقدره، نابذا مصلحته وراء ظهره وعرف خلوص دخلته وسلامة صدره، إلا أنه عن مصلحة شانه غافل، وعن حلى العلم الذي هو قيمة المرء عار عاطل، أيقظه من هجوع الاعترار بالأمل، ونبهه على أن الأمل لا يغنى بغير عمل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوحي إليه: وأنذر عشيرتك الأقربين. وقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب إنني لا أغني عنكم من الله شيئا، إئتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ومن ألفاه منهم ذاهبا في مجاهل الجهال، وسادرا في مهاوي الضلال، ومشايعا في احتقاب الأوزار، وهاتكا لأستار التصون والاستتار، واجهه خاليا بالتقريع والتقييد، وزجره بالإخافة والوعيد، فإن أنجع ذلك وأفاد، ورجع عن جهالته وعاد، وإلا قوم من ميده واعوجاجه، ووقف به على سبيل الحق ومنهاجه، وإن قرف أحدهم بجريمة أو رمي بجريرة فلا يعجل عليه بالمؤاخذة أو لا يسرع إليه بإجراء المقابلة، بل يتثبت إلى أن يقف بالبحث والايضاح، على الحق المحض الصراح، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فان اتضح ما قرف به وزن بسببه، نظر فإن كان مما أوجب الله فيه حدا من الحدود أقامه، من غير تعد على سلكه المحدود فيه ونظامه، قال الله سبحانه وتعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). وقال سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). ولا يجرمنه احتقابه الجرائم من نظر اعتنائه، ولا إقامة حد الله فيه من ملاحظته وإرعائه، (فأهل) هذا النسب وإن تفاوتت أحوالهم، وتباينت أعمالهم، خصوا بالاصطفاء، ووسموا بالاجتباء، قال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) وأمره بصرف همته إلى مصالح اليتامى وتخصيصهم من الإعناء، وتخويلهم من الارعاء بما ينسيهم ذلة اليتم وفقد الآباء، فمن كان منهم غنيا فيثمر ماله، ويهذب خلاله، وينفق عليه بالمعروف، لا شطط ولا تبذير، ولا تضييق ولا تقتير، فإذا بلغ الأشد وأنس منه الرشد، سلم ماله موفورا إليه، وأشهد بقبضه عليه، قال الله تعالى:
(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) إلى قوله: (فاشهدوا عليهم). ومن كان فقيرا فليثن عنان العناية إلى ما يعود بإصلاح أمره، وليصرف همه إلى جبر كسره، إلى حين استوائه، وتهذب أنحائه، وليدر عليه من الوقوف بالمعروف وليكن به عطوفا، وله أبا رؤوفا، وأمره بالنظر في أمر الأيامى بعين الاعتناء، وتزويجهن من الأضراب والأكفاء، وتحصينهن بالاحصان لا بالمنع والنسيان فإن التناكح مدد الوجود وقوامه، وبه يستتب أمره ويتسق نظامه، قال الله تعالى: (وانكحوا الأيامى منكم). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا أباه بكم الأمم يوم القيامة. وليتوخ تطهير عقود نكاحهن من أدناس الالتباس، وينزهها من أدران الأنجاس، قال الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وليطهركم تطهيرا). وأمره بصونه هذا النسب الكريم، والبيت الماجد العظيم، من تنحل الأدعياء، وانتماء الزنماء، فإن صادف من يدعي من ذلك ما لا يقوم البرهان على صحته، ولا تشهد الاستفاضة والشيوع بدحض حجته، صب عليه سوط التأديب، وردعه بزواجر التهذيب، فإن كفه الردع، وزجره المنع، وإلا وسمه بميسم يعرف به تنحله، ويشيع به كذبه وتقوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ملعون ملعون من انتسب إلى غير أبيه وادعى إلى غير مواليه. هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، هداك به إلى طريق الرشاد، وحداك في سبيل السداد، فاهتد بأنواره، واتبع لرشيد آثاره، تظفر بمغانم الرشاد، وتفز في المبدأ والمعاد، والله ولي التوفيق، لأرشد جدد وأقوم طريق، وكتب في سادس عشر شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وستمائة والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي المصطفى وآله وسلامه، رب أختم بخير. صورة العلامة الشريفة تحت البسملة (الناصر لدين الله). صورة خط الوزير نصير الدين أبي الحسن ناصر بن مهدي العلوي بين سطوره... ".
ولمكين الدين القمي أي مؤيد الدين في آخر عمره منشور كتبه بأمر الخليفة الناصر فيه تجديد الفتوة، قال ابن الساعي: قرأ المنشور عليهم (على رؤساء الفتيان) المكين أبو الحسن محمد بن محمد القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور وهو من إنشائه وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا يرتاب في براهينه وأدلته، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - هو أصل الفتوة ومنبعها، ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها، وعنه تروى محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليون غيره تنتسب الفتيان، وعلى منوال مؤاخاته النبوية الشريفة نسج الرفقاء والاخوان، وأنه كان عليه السلام مع كمال فتوته، ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها، ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها أو مللها ونحلها ومذاهبها، غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وحرره، ولا مراقب فيما رتبه من الحدود وقرره، امتثالا لأمر الله تعالى في إقامة حدوده، وحفظا لمناظمة الشرع وتقويم عموده، فإنه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع، ومشهد من خيار الصحابة ومجمع، فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه، ولا طعن عليه طاعن في حد أقامه، وحقيق بمن أورثه الله مقامه، وناط به شرائع الإسلام وأحكامه، وانتمى إليه عليه السلام في فتوته، واقتفى شريف شيمه وكريم سجيته، أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله، ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله، غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة ولا شرعا فيما يورده ويصدره، وقد رسم - أعلى الله المراسم العلية، المقدسة النبوية الإمامة وزادها نفاذا معضودا بالصواب، وتأييدا ممتد الأطناب محكم الأسباب - على كل من تشرف بالفتوة برفاقة الخدمة الشريفة المقدسة، المعظمة الممجدة المكرمة الطاهرة الزكية النبوية الامامية، الناصرة لدين الله تعالى - شرف الله مقامها وأخلد أيامها، وأعلى كلمتها ونصر رايتها - أنه من قتل رفيق له نفسا نهى الله تعالى عن قتلها وحرمه، وسفك دما حقنه الشرع المطهر وعصمه، وصار بذلك ممن قال الله تعالى في حقه، حيث أرتكب هذا المحرم، واحتقب عظيم هذا المأثم:
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (الآية) أن ينزل عنه في الحال في جمع الفتيان عند تحققه لذلك ومعرفته ويبادر إلى تغيير رفقته، مخرجا له بذلك عن دائرة الفتوة، التي كان متسما بها، مسقطا له من عداد الرفاقة التي لم يقم بواجبها: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم). وأن كل فتى يحوي قاتلا ويخفيه، ويساعده على أمره ويؤويه، ينزل كبيره عنه ويغير رفاقته، ويتبرأ منه وأن من حوى ذا عيب فقد عاب وغوى ومن آوى طريد الشرع فقد