لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتا للنكتة السابقة في الفاتحة.
ويا حرف نداء، والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم، وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هو ذا. وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة، وإنما خص نعمة الخلق وامتن بها عليهم. لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شئ منها بدونها، وأيضا فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق - ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله - فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق وجهان: أحدهما التقدير، يقال: خلفت الأديم للسقاء: إذا قدرته قبل القطع. قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشتفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي.
والمعنى هنا: لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كشبه سراب في الملا متألق أي كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال: متعرضين للتقوى. وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة * والأربع اثنين لما هدني الكبر و (فراشا) ما أي وطاء يستقرون عليها. لما قدم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشا لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال - وجعلنا السماء سقفا محفوظا -. وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى، ثم أمتن عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى حين. والأنداد جمع ند، وهو المثل والنظير. وقوله (وأنتم تعلمون) جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال - ولكن لا يعلمون. ولكن لا يشعرون. وما كانوا مهتدين. صم بكم عمي -. فيقال: إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد. قال ابن فورك: المراد وتجعلون لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد. وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان