الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم " للباطل صولة ثم يضمحل " وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه. قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى - ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين -. وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفى أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى - بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون -. قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال - رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت - أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى - مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفار - اه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفئ، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) يقول: في عذاب (صم بكم عمي) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قالوا: إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (كمثل الذي استوقد نارا) قال: ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله (ذهب الله بنورهم) قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن