وسيأتي مخرجه، وقيل إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته، وقيل إنه وإن ثبت شرعا أنه لا مؤاخذة بهما، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا، وقيل لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمدا، وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسيانا، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا بنزاهة ساحتهم عما يؤخذان به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شئ، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديانات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع انتهى. قوله (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) عطف على الجملة التي قبله، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرع واللجأ إلى الله سبحانه. والإصر: العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه: أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا التكليف الشاق، والأمر الغليظ الصعب، وقيل الإصر: شدة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة، ومنه قول النابغة:
يا مانع الضيم أن تغشي سراتهم * والحامل الإصر عنهم بعد ما غرقوا وقيل الإصر: المسخ قردة وخنازير، وقيل العهد، ومنه قوله تعالى - وأخذتم على ذلكم إصري - وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب، فإنه ما تقدم ذكره بلا نزاع، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال أصر يأصر إصرا: حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك. قال الجوهري: والموضع مأصر، والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم. وقوله (كما حملته) صفة مصدر محذوف: أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو صفة لإصرا: أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا.
قوله (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) هو أيضا عطف على ما قبله، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا.
والمعنى: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقيل هو عبارة عن إنزال العقوبات. كأنه قال: لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا، وقيل المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف: وهذا تقرير لقوله (ولا تحمل علينا إصرا). قوله (واعف عنا) أي عن ذنوبنا، يقال عفوت عن ذنبه: إذا تركته ولم تعاقبه عليه (واغفر لنا) أي استر على ذنوبنا، والغفر: الستر (وارحمنا) أي تفضل برحمة منك علينا (أنت مولانا) أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون، وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك (فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبيده، والمراد عامة الكفرة، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله (إن تبدو ما في أنفسكم) الخ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت، فكان ذلك دليلا على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشئ من الخطأ والنسيان ولا حمل عليهم شيئا من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم، ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان (لا نفرق بين أحد من رسله) لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا