وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واوا أو ياء لا يخفي على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحدا أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروي عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في تثنيته ربوان.
وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنية ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون - وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو - وليس المراد بقوله هنا (الذين يأكلون الربا) اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الآكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل قوله (لا يقومون) أي يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة). أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر، وقيل إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جن، ومنه قول الأعشى في ناقته:
وتصبح من غب السرى وكأنها * ألم بها من طائف الجن أولق فجعلها بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله (يقومون) أي لا يقومون من المس الذي بهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان) أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله (ذلك) إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم (إنما البيع مثل الربا) أي أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا، أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فرد الله سبحانه عليهم بقوله (وأحل الله البيع وحرم الربا) أي أن الله أحل البيع وحرم نوعا من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضا وأخذ معوضا، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله (فمن جاءه موعظة من ربه) أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا (فانتهى) أي فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه وهو معطوف: أي قوله (فانتهى) على قوله (جاءه). وقوله (من ربه)