نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه. فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال " قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها " وفي إسناده سليمان ابن أرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها (نأت بخير منها أو مثلها) يقول:
خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال (ننسأها) نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله (ما ننسخ من آية) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها (أو ننسأها) قال: نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله (نأت بخير منها أو مثلها) يقول فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف " أن رجلا كانت معه سورة، فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها فلم يقدر عليها، وقام آخر فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه، فقال: إنها نسخت البارحة " وقد روى نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة " أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب " وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أولها - سبح لله ما في السماوات - فأنسيناها، غير أني حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة " وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر.