مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا، ولا منه متحولا. قوله (وإذ يرفع) هو حكاية لحال ماضية استحضارا لصورتها العجيبة. والقواعد: الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمراد برفعها رفع ما هو مبني فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال ارتفع البناء، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ولا أسافله. قوله (ربنا تقبل منا) في محل الحال بتقدير القول: أي قائلين ربنا. وقرأ أبي وابن مسعود " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا ". وقوله (واجعلنا مسلمين لك) أي اجعلنا ثابتين عليه أو زدنا منه - قيل المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان والأعمال. وقوله (ومن ذريتنا) أي واجعل من ذريتنا، و " من " للتبعيض أو للتبيين. وقال ابن جرير:
إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهيلي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به. والأمة: الجماعة في هذا الموضع، وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى - إن إبراهيم كان أمة قانتا لله - وتطلق على الدين ومنه - إنا وجدنا آباءنا على أمة - وتطلق على الزمان، ومنه - وادكر بعد أمة -. وقوله - (وأرنا مناسكنا) هي من الرؤية البصرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن وغيرهم " أرنا " بسكون الراء، ومنه قول الشاعر:
أرنا إداوة عبد الله يملؤها * من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا والمناسك جمع نسك، وأصله في اللغة: الغسل، يقال نسك ثوبه: إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، والمراد هنا مناسك الحج، وقيل مواضع الذبح، وقيل جميع المتعبدات. وقوله (وتب علينا) ثيل المراد بطلبهما للتوبة التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما، وقيل المراد تب على الظلمة منا.
وقد أخرج ابن جرير عن عطاء (قال (وعهدنا إلى إبراهيم) أي أمرناه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أن طهرا بيتي) قال: من الأوثان. وأخرج أيضا عن مجاهد وسعيد بن جبير مثله، وزادوا الريب وقول الزور والرجس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إذا كان قائما فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال: هم العاكفون. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها " كما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر. وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق جماعة من الصحابة، منهم رافع بن خديج عند مسلم وغيره، ومنهم أبو قتادة عند أحمد، ومنهم أنس عن الشيخين، ومنهم أبو هريرة عند مسلم، ومنهم علي بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أسامة بن زيد عن أحمد والبخاري، ومنهم عائشة عند البخاري.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة " أخرجه البخاري تعليقا، وابن ماجة من حديث صفية بنت شيبة، وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرجه الشيخان وأهل السنن من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرما آمنا نسب إليه أنه حرمها: أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير. وقال ابن جرير: