فيلزم أن يجعل الدين حالا، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها، وممن قال بهذا القول ابن سيرين، واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلا الذمتين قد خرجت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت.
وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال: الأول: أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. القول الثاني:
ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء، وإن كانت أكثر أو مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه. القول الثالث: تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضي له بها: أعني للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. والقول الرابع: أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة، والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة، وهذا اللفظ لمالك، فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول، ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فأما أن يعطى في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك. وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد خبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا، والأصول يقينية مقطوع بها، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس: ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة. ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس، وهو رأي ابن سيرين وإبراهيم من التابعين. وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء وهذا الحديث أولى لأنه