مسألة: واختلفوا من هذا الباب في الصنف الواحد من اللحم الذي لا يجوز فيه التفاضل، فقال مالك: اللحوم ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع، ولحم ذوات الماء صنف، ولحم الطير كله صنف واحد أيضا، وهذه الثلاثة الأصناف مختلفة يجوز فيها التفاضل، وقال أبو حنيفة: كل واحد من هذه هو أنواع كثيرة، والتفاضل فيه جائز إلا في النوع الواحد بعينه، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول أبي حنيفة، والآخر أن جميعها صنف واحد.
وأبو حنيفة يجيز لحم الغنم بالبقر متفاضلا، ومالك لا يجيزه والشافعي لا يجيز بيع لحم الطير بلحم الغنم متفاضلا، ومالك يجيزه. وعمدة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام: الطعام بالطعام مثلا بمثل ولأنها إذا فارقتها الحياة زالت الصفات التي كانت بها تختلف، ويتناولها اسم اللحم تناولا واحدا. وعمدة المالكية أن هذه أجناس مختلفة، فوجب أن يكون لحمها مختلفا. والحنفية تعتبر الاختلاف الذي في الجنس الواحد من هذه، وتقول إن الاختلاف الذي بين الأنواع التي في الحيوان، أعني في الجنس الواحد منه كأنك قلت الطائر هو وزان الاختلاف الذي بين التمر والبر والشعير. وبالجملة فكل طائفة تدعي أن وزان الاختلاف الذي بين الأشياء المنصوص عليها هو الاختلاف الذي تراه في اللحم، والحنفية أقوى من جهة المعنى، لان تحريم التفاضل إنما هو عند اتفاق المنفعة.
مسألة: واختلفوا من هذا الباب في بيع الحيوان بالميت على ثلاثة أقوال: قول إنه لا يجوز بإطلاق، وهو قول الشافعي والليث، وقول إنه يجوز في الأجناس المختلفة التي يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز ذلك في المتفقة: أعني الربوية لمكان الجهل الذي فيها من طريق التفاضل، وذلك في التي المقصود منها الأكل، وهو قول مالك، فلا يجوز شاة مذبوحة بشاة تراد للأكل، وذلك عنده في الحيوان المأكول: حتى أنه لا يجيز الحي بالحي إذا كان المقصود الأكل من أحدهما، فهي عنده من هذا الباب، أعني أن امتناع ذلك عنده من جهة الربا والمزابنة، وقول ثالث أنه يجوز مطلقا، وبه قال أبو حنيفة. وسبب الخلاف: معارضة الأصول في هذا الباب لمرسل سعيد بن المسيب، وذلك أن مالكا روى عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الحيوان باللحم فمن لم تنقدح عنده معارضة هذا الحديث لأصل من أصول البيوع التي توجب التحريم قال به، ومن رأى أن الأصول معارضة له وجب عليه أحد أمرين: إما أن يغلب الحديث فيجعله أصلا زائدا بنفسه أو يرده لمكان معارضة الأصول له، فالشافعي غلب الحديث وأبو حنيفة غلب الأصول، ومالك رده إلى أصوله في البيوع، فجعل البيع فيه من باب الربا، أعني بيع الشئ الربوي بأصله، مثل بيع الزيت بالزيتون وسيأتي الكلام على هذا الأصل فإنه الذي يعرفه الفقهاء بالمزابنة، وهي داخلة في الربا بجهة، وفي الغرر بجهة، وذلك أنها ممنوعة في الربويات من جهة الربا والغرر، وفي غير الربويات من جهة الغرر فقط الذي سببه الجهل بالخارج عن الأصل.