أقسموا. قالوا: ومنها أن من الأصول أن الايمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله (ص) حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله (ص) ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الاسلام، ولذلك قال لهم:
أتحلفون خمسين يمينا - أعني لولاة الدم وهم الأنصار؟ - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله (ص) هي السنة. قال: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة. والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى. وأما القائلون بها وبخاصة مالك فرأى أن سنة القسامة منفردة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر وكان يقل قيام الشهادة عليه لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق والسراق، وذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق، فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين مع مخالفة ذلك للأصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم. والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فقال مالك وأحمد:
يستحق بها الدم في العمد، والدية في الخطأ، وقال الشافعي والثوري وجماعة: تستحق بها الدية فقط، وقال بعض الكوفيين: لا يستحق بها إلا دفع الدعوى على الأصل في أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه، وقال بعضهم: بل يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا إنما يستحق منها دفع القود فقط، فيكون فيما يستحق المقسمون أربعة أقوال. فعمدة مالك ومن قال بقوله ما رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة وفيه: فقال لهم رسول الله (ص): تحلفون وتستحقون دم صاحبكم وكذلك ما رواه من مرسل بشير بن يسار وفيه: فقال لهم رسول الله (ص): أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟. وأما عمدة من أوجب بها الدية فقط، فهو أن الايمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال أعني في الشرع مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل ما يجب المال بنكول المدعى عليه أو بالنكول وقلبها على المدعي عند من يقول بقلب اليمين مع النكول مع أن حديث مالك عن ابن أبي ليلى ضعيف لأنه رجل مجهول لم يرو عنه غير مالك. وقيل فيه أيضا: إنه لم يسمع من سهل. وحديث بشير بن يسار قد اختلف في إسناده، فأرسله مالك وأسنده غيره. قال القاضي: يشبه أن تكون هذه العلة هي السبب في أن لم يخرج البخاري هذين الحديثين، واعتضد عندهم القياس في ذلك بما روي عن عمر