العمد، فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور، فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس، فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية، وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب، وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين. قالوا: ولنا فيه تأويلان: أحدهما: أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع، فقيل لهم إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقول. وأما التأويل الآخر: فقالوا: إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة، والحقيقة هي التفرق بالأبدان. ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس، فيغلب الأقوى. والحكمة في ذلك هي لموضع الندم، فهذه هي أصول الركن الأول الذي هو العقد.
وأما الركن الثاني: الذي هو المعقود عليه، فإنه يشترط فيه سلامته من الغرر والربا، وقد تقدم المختلف في هذه من المتفق عليه وأسباب الاختلاف في ذلك، فلا معنى لتكراره. والغرر ينتفي عن الشئ بأن يكون معلوم الوجود، معلوم الصفة، معلوم القدر، مقدورا على تسليمه، وذلك في الطرفين: الثمن والمثمون معلوم الاجل أيضا إن كان بيعا مؤجلا.
وأما الركن الثالث: وهما العاقدان، فإنه يشترط فيهما أن يكونا مالكين تامي الملك أو وكيلين تامي الوكالة بالغين، وأن يكونا مع هذا غير محجور عليهما أو على أحدهما، إما لحق أنفسهما كالسفيه عند من يرى التحجير عليه أو لحق الغير كالعبد إلا أن يكون العبد مأذونا له في التجارة. واختلفوا من هذا في بيع الفضولي، هل ينعقد أم لا؟ وصورته أن يبيع الرجل مال غيره بشرط إن رضي به صاحب المال أمضى البيع، وإن لم يرض فسخ، وكذلك في شراء الرجل للرجل بغير إذنه، على أنه إن رضي المشتري صح الشراء وإلا لم يصح، فمنعه الشافعي في الوجهين جميعا، وأجازه مالك في الوجهين جميعا، وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء فقال: يجوز في البيع ولا يجوز في الشراء. وعمدة المالكية ما روي أن النبي (ص) دفع إلى عروة البارقي دينارا وقال: اشتر لنا من هذا الجلب شاة، قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة والدينار، فقلت: يا رسول الله هذه