وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه، وفي كل هذه المسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها، فما اجتمعوا على إبطال إجارته: كل منفعة كانت لشئ محرم العين، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع، مثل أجر النوائح وأجر المغنيات، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الانسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها، واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة، وكذلك الثياب والبسط. واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن وفي الإجارة على تعليم القرآن، وفي إجارة نزو الفحول، فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل، وبه قال طاو س وأبو بكر بن عبد الرحمن، وقال الجمهور بجواز ذلك. واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها، فقال قوم: لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط، وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب، وقال قوم: يجوز كراء الأرض بكل شئ ما عدا الطعام، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط، وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام، وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين، وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ، وقال قوم: يجوز كراؤها بكل شئ وبجزء مما يخرج منها، وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة.
وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج: أن رسول الله (ص) نهى عن كراء المزارع قالوا: وهذا عام، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه، قال حنظلة، فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال: لا بأس به. وروى هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه، وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخص العموم بقول الراوي. وروي عن رافع بن خديج عن أبيه قال: نهى رسول الله (ص) عن إجارة الأرضين قال أبو عمر بن عبد البر: واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال:
خطبنا رسول الله (ص) فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض. وقالوا أيضا من جهة المعنى: إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر، لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق، فيكون قد لزم كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشئ. قال القاضي: ويشبه أن يقال في هذا المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة، وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي (ص) أنه قال: