نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم فيه وقوله فيها: يأكلها أهلها رطبا. والعرية عندهم هي اسم لما دون الخمسة الأوسق من التمر، وذلك أنه لما كان العرف عندهم أن يهب الرجل في الغالب من نخلاته هذا القدر فما دونه، خص هذا القدر الذي جاءت فيه الرخصة باسم الهبة لموافقته في القدر للهبة، وقد احتج لمذهبه بما رواه بإسناد منقطع عن محمود بن لبيد أنه قال لرجل من أصحاب رسول الله (ص) - أما زيد بن ثابت وإما غيره -: ما عراياكم هذه؟ قال: فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله (ص) أن الرطب أتى وليس بأيديهم نقد يبتاعون به الرطب فيأكلونه مع الناس، وعندهم فضل من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم يأكلونها رطبا وإنما لم يجز تأخير نقد التمر لأنه بيع الطعام بالطعام نسيئة. وأما أحمد فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره. وأما أبو حنيفة فلما لم تجز عنده المزابنة وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب بإعطاء خرصها تمرا، أو تسميته إياها بيعا عنده مجاز، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشئ من الأشياء سوى الخرص، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك وقد قيل إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع: منها أنه لم يسمها بيعا، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا. ومنها أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة، لان المزابنة هي في البيع.
والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع، وهي المزابنة، والله أعلم.