فكان والي خراسان الجراح الحكمي يصرخ على منبر المسجد (1): والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة غيرهم، يقول هذا القول على مسمع من ليسوا قومه فتثور حزازاتهم وأضغانهم.
وعمر بن هبيرة والي العراق كان من دواعي فخره انه لم يعرض له أمر رأى فيه منفعة (لقومه) الا فعله.
وخالد بن عبد الله القسري كان أشد خلق الله عصبية على نزار (4) وقد اتهمته المضرية بتعمد ايذاء شعراء مضر وحبسهم (5) وأخوه أسد بن عبد الله والي خراسان كان ينافس أخاه خالدا في عصبيته على النزارية (6) وجاء بعده واليا عليها نصر بن سيار فعمد إلى فعل عكس ما فعله سلفه فاظهر العصبية لمضر، لتزداد الفتنة تأججا فالحكم تارة مع هؤلاء وتارة مع خصومهم.
وعبيدة بن عبد الرحمان السلمي والي إفريقيا أضر بمن هناك من الكلبيين وتعصب عليهم (8).
وكما قلنا فقد أدى ذلك إلى الاقتتال الدموي حتى بين القبائل العربية خارج الأرض العربية كهذا القتال الطويل في خراسان الذي قاده عبد الله بن خازم السلمي في الحرب بين قبيلته وبين قبائل ربيعة والأزد والذي استطاع بعده ان يستأثر بالأمور في خراسان إلى حين (9) فتساءلت قبيلة بكر: علام يأكل هؤلاء خراسان دوننا؟ وهكذا فالتزاحم لا على المآثر والمكارم، ولا على نشر العدل، بل على (الاكل) (10).
ولم تقتصر فتنة خراسان هذه على عرب خراسان بل تردد صداها وامتد اثرها إلى العراق حيث حرق مالك بن مسمع دور تميم في البصرة ردا على مذابح ابن خازم في قبيلة ربيعة في هرات (11) وعبد الله بن خازم نفسه لم يقصر في خراسان بالايقاع في بني تميم حين حصرهم في حصن (فرتنا) وقتل فرسانهم وابطالهم مما تردد صداه في تميم في العراق (12).
وكذلك لما هاجت العصبية بخراسان بين اليمنية والمضرية أرسلت يمانية الشام إلى خراسان نجدة عسكرية لنصرة قومهم وفي بلخ وقعت معركة البرقان بين المضرية وعلى رأسهم نصر بن سيار وبين الأزد وبكر وعليهما عمرو بن مسلم (15) ولما ثارت الفتنة القبلية في خراسان بين نصر بن سيار والكرماني اجتمعت اليمانية تحت لواء الكرماني واجتمعت مضر إلى نصر.
الوحشية والفظائع على أن أخطر ما أنتجته سياسة دولة (القومية العربية) في اثارتها النزاع بين قبائل العرب إلى حد الحروب الدامية، هو ان هذه الحروب فاقت بشراستها وفظائعها حروب القبائل في الجاهلية بل أدت هذه الحروب إلى ما يصم التاريخ العربي بوصمة العار. فقد كانت الحروب القبلية في الجاهلية انما يثيرها الفقر وطلب المغانم، لذلك كان الظافرون فيها يحرصون على استبقاء الاسرى لمفاداتهم بالمال. اما في حروب دولة (القومية العربية) فقد عادت الحروب القبلية حروب افناء وابادة لا حروب حصول على الاسرى، وارتكب فيها من الفظائع ما يخجل الإنسانية كلها لا العرب وحدهم، فضلا عن قتل الاسرى وما فيه من شناعة وعار، فقد جاءت هذه الحروب بما لم يعرفه العرب في تاريخهم من وحشية وفظاعة، لقد كانت حروب القبائل الجاهلية تتسم دائما بطابع من المروءة العربية الأصيلة التي كانت هي ميزة العربي الأولى لا سيما مع النساء.
اما الحروب القبلية التي اثارتها دولة (القومية العربية) فقد كان بعض أفعالها بقر بطون النساء الحوامل. ففي وقعة (ماكسين) وحدها بقرت قبيلة قيس بطون ألفين من بطون نساء تغلب (16) وافتخر بذلك شاعرهم نفيع بن صفار المحاربي فقال:
بقرنا منهم ألفي بقير * فلم نترك لحاملة جنينا وفي معركة الثرثار (17) الأولى بين جموع بني سليم وجموع ربيعة التي انهزم فيها بنو سليم، بقرت ربيعة بطون ثلاثين امرأة من بني سليم.
ولما التقت تغلب وقيس يوم الكحيل وانهزمت تغلب وراحت فلولها تحاول عبور دجلة، غرق القيسيون من التغلبيين بشرا عظيما في النهر وقتلوا من وقع في أيديهم أسيرا وبقروا بطون نسائهم، وفي معارك ابن خازم مع ربيعة في خراسان التي مرت الإشارة إليها وانتصر فيها ابن خازم، ظل ابن خازم يقتل كل من وقع في يده من الاسرى حتى غابت الشمس.
والظاهرة الملفتة للنظر انه في المدن المتأثرة بسياسة دولة (القومية العربية) كانت الفتن تعظم وتشتد وتمتد ففي البصرة مثلا حيث كان التجمع القبلي الكبير: مضر وربيعة والأزد كانت الفتن بين القبائل متواصلة لا تهدأ ولا تستقر، في حين ان الكوفة غير المتأثرة بسياسة دولة (القومية العربية)، كانت قبائلها على كثرتها وتنوع أصولها متماسكة فلم يظهر فيها نزعات قبلية ذات شأن كالتي شهدتها البصرة. والعجيب في أمر هذه القبائل المتنازعة المتقاتلة انها في أعماق نفوسها كانت تحس ان الدولة هي التي تؤرث البغضاء بينها فتدفعها إلى الاحتراب والتعادي. وبدافع من هذا الإحساس رأينا هذه القبائل عندما كانت تلوح لها أول فرصة للثورة على هذه الدولة تنسى كل ما كان بينها من اشتجار وتهاجي واقتتال، وتهب كلها يمنيها ومضريها وربيعيها وتجتمع على الثورة على دولة (القومية العربية) كما حدث في الثورة على ممثل السلطة الحجاج بن يوسف التي فرضت الظروف ان يقودها عبد الرحمان بن الأشعث سنة 81. فسمعنا شاعر تلك الثورة أعشى همدان ينطق باسم العرب جميعا، باسم القبائل الثائرة