بعد المتنبي وابن هاني رأينا فيما تقدم انهيار الدولة الحمدانية بعد سيف الدولة فتمهد الطريق امام البيزنطيين ليتقدموا في شمال بلاد الشام ويحتلوا فيه المدن ويبسطوا سيادتهم على اجزاء منه كما سيطروا على كيليكيا، بل لقد غزوا شمال العراق وعبروا نهر دجلة. ولم يكن باستطاعة الفاطميين الأقوياء ان يعملوا شيئا على الجبهة المشرقية، لان بينهم وبينها أمادا واسعة لا سلطة لهم عليها. ثم إذا بهم على أبواب المشرق ثم في صميم مصر. ثم جاءت الخطوات التالية فإذا بهم يوغلون في المشرق ثم يصبحون جزءا منه، وإذا بهم وجها لوجه مع البيزنطيين في المشرق كما هم معهم في المغرب، فجعلوا همهم الأول استرجاع ما استولى عليه البيزنطيون من المدن الشامية. وحاولوا أول الأمر اجلاء البيزنطيين عن أنطاكية التي كان قد استولى عليها نقفور فوكاس سنة 358 ه (2969 م)، ولكن القوى البيزنطية كانت أكثر كثافة مما قدرت مخابرات الفاطميين وكانت تفوق قواتهم عددا واعدادا، فان البيزنطيين عرفوا خطورة سقوط أنطاكية فضلا عن انها مدينة البطاركة والقديسين، لذلك اعتبرت منافسة بيزنطية من الناحية الدينية لهذا حشدوا للدفاع عنها قوى لم تكن في تقدير الفاطميين، ففشل الجيش الفاطمي في استردادها، واغتنم الإمبراطور البيزنطي حنازيمسكس هذا الفشل وتقدم بجيوشه سنة 975 من أنطاكية إلى حمص ومنها إلى بعلبك، وخافت دمشق مغبة مقاومته فخضعت ودفعت له الجزية، كما سلمت له طبريا وقيسارية، وكان مصمما على الوصول إلى القدس، وهكذا يكون هذا الإمبراطور البيزنطي ثاني من يفكر من أباطرة بيزنطية، في استرجاع القدس من المسلمين، بعد المفكر الأول نقفور فوكاس الثاني، وهكذا تكون بيزنطية قد سبقت الصليبيين في التخطيط للنفاذ إلى القدس.
ويبدو جليا من استعراض الاحداث ان الفاطميين أدركوا نية حنازيمسكس وصمدوا له فتراجع عن محاولة الوصول إلى القدس وحول هدفه فاتجه إلى الساحل اللبناني مغتنما فرصة حشد الجيوش الفاطمية في طريق القدس، فاستطاع الاستيلاء على صيدا وبيروت، ثم اتجه إلى طرابلس. وهكذا نرانا ونحن نقص هذا القصص، قد صرنا في صميم التاريخ اللبناني، وان ما نقصه هو جزء من تاريخ هذا البلد الجريح.
لم يغفل الفاطميون عن نيات الإمبراطور البيزنطي فاسرعوا لصده عن طرابلس والوقوف في طريق زحفه إليها، وعضدوا جيشهم البري المدافع عنها بأسطولهم الحربي، واستطاعوا الحاق الهزيمة بالبيزنطيين ورد حنازيمسكس عن طرابلس وملاحقته حتى أخلى بيروت وصيدا وكل ما استولى عليه من مدن الساحل اللبناني. وظلت الضربات الفاطمية تلاحقه حتى ردته إلى أنطاكية.
ولما حاق به الفشل عاد آيبا إلى القسطنطينية مقهورا حيث توفي في أوائل سنة 976.
هنا نفتقد المتنبي ونفتقد ابن هاني، هنا نفتقد الشاعر العربي الذي يتغنى بالظفر العربي، ونتلفت فلا نجد في الساحة من يقول في حنازيمسكس المهزوم المقهور اللائذ من بطولات الفاطميين بعاصمته ما قاله المتنبي في برداس فوكاس حين فر من المعركة جريحا في وجهه وترك ابنه أسيرا فيها ثم لاذ بالدير:
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة * وخلفت احدى مهجتيك تسيل أتسلم للخطية ابنك هاربا * ويسكن في الدنيا إليك خليل بوجهك ما أنساكه من مرشة * نصيرك منها رنة وعويل أو ما قاله ابن هاني في نقفور فوكاس بعد معركة المجاز البرية البحرية:
يوم عريض في الفخار طويل * لا تنقضي غرر له وحجول مسحت ثغور الشام أدمعها به * ولقد تبل الترب وهو همول قل للدمستق مورد الجمع الذي * ما أصدرته له قنا ونصول سل رهط (منويل) وأنت غررته * في اي معركة ثوى منويل (1) منع الجنود من القفول رواجعا * تبا له بالمنديات قفول لم يتركوا فيها بجعجاع الردى الا النجيع على النجيع يسيل نحرت بها العرب الأعاجم انها * رمح امق ولهذم مصقول قلت انا افتقدنا الشاعر العربي الذي يعيش بشعره المعارك العربية الظافرة، فلم نره بعد المتنبي وابن هاني، فهل كانت الساحة العربية خالية من عباقرة الشعر؟
الواقع انها لم تكن خالية، فقد كان فيها أيام تلك الاحداث شاعر العرب الفريد (أبو العلاء المعري)، ولكن هل كان باستطاعة أبي العلاء ان يسد فراغ الشاعرين الحماسيين؟
انه رهين المحبسين، سجين في سجنين رهيبين، وماذا عسى الشاعر الحبيس ان يفعل؟
انه لم يكن مستطيعا ان يمتطي الجواد ويجرد السيف ويمشي إلى جنب القائد فيشارك في المعركة ويراها عن كثب فينفعل برهجها، كما كان يحدث للمتنبي مع سيف الدولة... ولا كان مستطيعا ان يواكبها في احداثها متتبعا لها ساعة فساعة فيضطرم بانبائها، كما كان يحدث لابن هاني مع المعز.
انه كان في محبسيه... ولكن المعري الذي عاش هموم شعبه، فأنطقته هذه الهموم بالشعر الثائر المثير، هل كان يمكن ان يكون بعيدا عما يجري على حدود الوطن، أو في قلب الوطن من صراع بين حرية الوطن واستعباده...
بين الأجنبي المنقض على الوطن، وبين المواطن المنقض على هذا المنقض؟
لم يكن هذا من طبعه، لهذا كان وهو في محبسيه يعيش مع المناضلين في ميادين الحرب، يعيش معهم بحسه وعواطفه ووطنيته، ان لم يستطع ان يعيش معهم بجسمه وعينيه.
لذلك كان المعري شاعر النضال العربي المسلح في تلك الفترة الحرجة من حياة الوطن العربي.
كان الصوت الذي تغنى ببطولات المقاتلين، وتحمس لوقائعهم، وحرض على أعدائهم.
المعري الهادئ الرقيق القلب الذي يشفق على الحيوان المذبوح فلا يأكل اللحم، هو نفسه الذي يقول وقد سمع بجولات فرسان العرب ذيادا عن وطنهم:
فوارس قوالون للخيل اقدمي * وليس على غير الرؤوس مجال لهم اسف يزداد اثر الذي مضى * من الدهر سلما ليس فيه قتال بأيديهم السمر العوالي كأنما * يشب على أطرافهن ذبال ها هو المعري ينقلب بعد الرفق واللين أسدا هصورا يستطيب مرأى الدم الفوار، ويستعذب تخيل الفوارس جوالة فوق الرؤوس المضرجة بالنجيع