انما يقصد بني تغلب وحدهم ولا علاقة له بالعرب، وهو يريد ان تخر جبابرة العرب ساجدة امام الصبي التغلبي المفطوم؟
وهو يريد ان يملأ البر والبحر لا ليقاتل به أعداء العرب، بل ليقاتل به العرب...
هذه هي الذهنية الجاهلية التي جاء الاسلام ليقضي عليها، واستطاع ذلك، وصهر العرب كلهم في أمة واحدة أرادها ان تحمل الاسلام إلى العالم كله مطبقة فيه مفهومه الجديد للحكم، لا ان يطبق على الشعوب حكم القياصرة والأكاسرة نفسه، وان يحل محل ذلك الحكم بكل شروره ومفاسده...
فما ذا كانت نتيجة الحكم الذي يسميه من يسميه بالحكم العربي ويشيدون بتعصبه للعرب وحدهم؟...
كانت النتيجة ان هذا الحكم عاد بالعرب إلى جاهليتهم الأولى من إثارة النعرات القبلية وتحريش القبائل بعضها ببعض لتنشغل بصراعاتها فيما بينها عن التبصر فيما يمارسه الحكم من اضطهاد وبما يتحكم فيه من فساد، وقد نجح الحكم في ذلك إلى أبعد الحدود.
لقد كان يصنف الناس إلى قبائل فيقدم أحدها ويغدق عليها نعمه ليثير احقاد القبيلة الأخرى لتنسى كل شئ ولا تفكر الا كيف تتقرب من الحكم لتغيظ القبيلة المنافسة.
وقد استعمل الحكم في ذلك مختلف الوسائل فكان يحرش بين رؤساء القبائل ويحرش بين شعراء القبائل، فيثير بذلك الفتن بين القبائل وتعود إلى ماضيها الجاهلي البغيض.
وكان الحكام يستغلون التقاء وفود القبائل في مجالسهم فيحرضونها بعضها على بعض، ويدعون خطباء كل قبيلة إلى التفاخر والتباهي حين تفد إليهم وفودهم. لذلك كانت كل قبيلة تحرص على أن يكون في وفدها من يجيد المقارعة والمفاخرة.
فقد التقى وفد نزار ووفد اليمن في مجلس معاوية فما زال بهم حتى قام خطباء نزار وذهبوا في خطبهم في التفاخر كل مذهب فقام صبرة بن شيمان سيد الأزد واختصر الامر بان قال: (انا حي فعال ولسنا حي مقال ونحن نبلغ بفعالنا أكثر من مقال غيرنا).
وانفض المجلس بعد ان بلغ الحكم غايته من إثارة الأحقاد بين القبيلتين الكبيرتين.
وفي يوم آخر كانت عنده مجموعة من رجال القبائل فأراد ان يثير المنافسة بينها جميعها دفعة واحدة فقال:
إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابها ولوائها وبنو مخزوم بافعالها وأموالها، وبنو تيم بصديقها وجوادها وبنو عدي بفاروقها ومتفكرها وبنو سهم بأرائها ودهائها، وبنو جمح بشرفها وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، فمن ذا يجلي في مضمارها ويجري إلى غايتها؟...
ولم يكن شئ أكثر تحريشا بين القبائل وإثارة أحقادها ودعوتها إلى التفاخر والتنابذ أكثر من هذا القول ينطق به رأس الحكم...
وكذلك فعل عبد الملك بن مروان حين دخل عليه عياش بن الزبرقان وعنده روح بن زنباع فقال عبد الملك: يا عياش، أ ما ترى هذا اليماني يفخر بملوك اليمن؟...
وكان هذا القول كافيا لان يثير ما اثار في القبيلتين.
وكذلك فعل هشام بن عبد الملك حين حرش بين الأبرش الكلبي وخالد بن صفوان.
وفيما ذكر في هذا الموضوع ان معاوية وابنه يزيد بذلوا لقضاعة أموالا جسيمة لتنتفي من اليمن وتنتسب إلى معد فاستجاب نفر من رؤسائها لذلك، ولكن آخرين رفضوا هذا الانتساب وقاموا بمظاهرة صاحبة كان رجالها يرتجزون وهم يقتحمون المسجد:
يا أيها الداعي ادعنا وبشر * وكن قضاعيا ولا تنزر نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر * قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر * من قال قولا غير ذا يبصر وهكذا وقعت الفتنة في القبيلة الواحدة، ثم امتدت إلى أوسع من ذلك، بين القبيلتين، ثم إلى العبث بأحاديث الرسول فوضعت نزار حديثا ينسب فيه الرسول قضاعة إلى معد، بل يجعله بكر ولده ووضع أهل اليمن أحاديث تنقض هذا القول وتؤيد نسبة قضاعة إلى حمير (1).
أرأيت كيف نجحت اللعبة وبما ذا انشغل الشعب؟...
وهناك قصيدة الوليد بن يزيد التي قالها في تحدي اليمن، مما أثار الفتنة بين النزاريين واليمنيين... وهذا الذي نذكره غيض من فيض، وليس هو كل ما جرى، بل هو نقطة من بحر ما جرى حتى لقد أدى الامر إلى أن تكون النزاعات القبلية هي شغل الناس الشاغل اليومي، ولعل ما يصور الامر على حقيقته ما رواه الجاحظ في (البيان والتبيان) من أنه: ما كان رجلان من قبيلتين يلتقيان حتى يتذكرا أيام قبيلتيهما في الجاهلية ويتفاخرا. وهذا ما رمت اليه دولة (القومية العربية) من أشغال الناس عنها بنزاعاتهم. القتال الدموي على أن الامر تعدى التشاحن باللسان واستثارة الضغائن في النفوس، إلى القتال الدموي بين القبائل، وهو النتيجة الطبيعية لشحن العقول بكل ما شحنت به، فرأينا مثلا الوقائع الدامية بين قبيلتي قيس وتغلب في بلاد الجزيرة. وبعد ان كان المسجد مكان تلاقي الناس على المحبة والوئام أصبح مكان تلاقيهم على البغضاء والقتال كهذا الذي جرى في مسجد البصرة بين مضر وربيعة، وبعد ان كان الهتاف فيه: حي على الفلاح، صار يا لتميم... واقتحم بنو تميم في احدى المرات مسجد البصرة على مسعود بن عمر وأنزلوه عن المنبر وقتلوه.
وعمت الفتن القبلية جميع الارجاء وحملها ولاة دولة (القومية العربية) معهم إلى ما تولوه من بلاد خارج الأرض العربية، لمن نزلها هناك من القبائل