رأى القحطانية ذلك جاروهم في التنصل من النسب العربي فادعوا اتصال نسبهم باليونان، واختصوا اليونان، لأن العدنانية انتسبوا إلى الفرس أعداء اليونان، فزعموا أن يونان بن عابر هو أخو قحطان بن عابر (1). ولا دعاء النزارية قرابتهم بالديلم ادعى القحطانية قرابتهم بالترك (1).
وقد أدى هذا الحال إلى أن يصبح العرب في ظل دولة (القومية العربية) مهزأة الأمم ومضحكتها فقال أحد شعراء الأعاجم يخاطب العرب ساخرا منهم:
زعمتم بان الهند أولاد خندف * وبينكم قربى وبين البرابر وديلم من نسل بن ضبة باسل * وبرجان من أولاد عمرو بن عامر فقد صار كل الناس أولاد واحد * وصاروا سواء في أصول العناصر (3) لمن السيادة يقول الكاتب فيما يقول: (حيث العرب من كل قبيلة وفخذ ودين هم السادة وغير العرب ولو هم مسلمون من الموالي).
ونقول له: كلا لم يكن الامر كذلك فالسيادة والسلطة والحكم لفئة نفعية تحسن استعباد الناس وسفك دمائهم ونهب أموالهم، اما بقية العرب فللهوان والذل والقتل والنهب ولا تشفع لهم عروبتهم ولا نسبهم العدناني أو القحطاني العريق.
ونعرض له واحدا ممن كانت لهم السيادة. فقد كان سمرة بن جندب واليا على البصرة بالوكالة، فلما جاء الوالي الأصيل كان سمرة قد قتل في غيابه ثمانية آلاف رجل، وكان لا بد له من أن يقدم (تقريرا) شفهيا للوالي الأصيل فذكر له فيما ذكر انه قتل في هذه المدة القصيرة ثمانية آلاف رجل، فكان كل ما علق به الأصيل - وهو زياد بن سمية - ان سأله هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا؟ فأجاب سمرة: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت... وانتهى التحقيق واقفل المحضر بهذا الجواب الموجز.
ثمانية آلاف عربي يقتلهم هذا الوالي الذي كانت له (السيادة) في دولة (القومية العربية)، يقتلهم بكلمة واحدة يقولها...
فأين (سيادة) هؤلاء الآلاف الثمانية الذين هم من (كل قبيلة وفخذ) على حد تعبير الكاتب؟...
وإذا كان هذا ما فعله وال واحد كان واليا (بالوكالة) لمدة قصيرة فلك ان تقدر ما فعله الولاة الاصلاء في المدد الطويلة وهذا الوالي بالوكالة خرج يوما من بيته إلى (مكتبة) بموكبه الرهيب، فلما كان عند دور بني أسد خرج رجل من بعض أزقتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجل من القوم فأوجره الحربة ثم مضت الخيل، فاتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحط بدمه، فقال ما هذا؟
قيل: أصابته أوائل خيل الأمير، قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا...
العرب سكان البصرة (من كل قبيلة وفخذ) وفيهم بنو أسد: عليهم إذا سمعوا ان سمرة بن جندب قد ركب وسار بموكبه عليهم ان يخلوا الشوارع وينخذلوا في بيوتهم حتى يمر الموكب، والا أوجرتهم الحراب.
ومن سوء حظ العرب سكان البصرة (من كل قبيلة وفخذ)، انه لم يكن في البصرة يومذاك (إذاعة) تعلن ساعة الصفر لموكب الأمير ليتقي أهلها الأسنة.
هذه هي (السيادة) التي كانت للعرب (من كل قبيلة وفخذ) في حكم دولة (القومية العربية). ونحن نسأل الكاتب - وهو اليساري العتيق - هل جعلت روسيا الشيوعية السيادة للروس وحدهم في الاتحاد السوفيتي، أم جعلتها - وهي صاحبة الدعوة العالمية - لكل من آمن بالدعوة من سكان الاتحاد؟
ألم يتول أعلى منصب فيها في وقت من الأوقات رجل ارمني كان مؤهله انه مؤمن بالدعوة مخلص لها؟
فلماذا أذن تتبجح بما تتبجح به، في حين ان الأصل في قيام الدولة العربية كان الدعوة الاسلامية العالمية؟
ان رسول الدعوة ومنشئ الدولة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل في قمم السلطة ثلاثة من غير العرب، كانت مؤهلاتهم هي إيمانهم بالدعوة و اخلاصهم لها. لقد كان سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من أركان الدولة حاملة الرسالة الاسلامية، هذا والدولة لم تكن تعدت بعد حدود الجزيرة العربية، فكيف بها لو تعدتها فإلى أي حد كان يمكن أن يكون عدد المشاركين من غير العرب في بناء الدولة والمساهمين في تسيير دفتها؟؟ يتبجح الكاتب بما صار اليه امر الموالي... ونحن نريد ان نعرض للقراء بعض ما كان عليه امر الموالي الذين آمنوا بالدعوة العالمية الاسلامية، لنرى ان كان القراء يشاركون الكاتب تبجحه.
كان من خلفاء دولة القومية العربية خليفة واحد يستحق بان يحمل لقب (القومي العربي) بكل ما تحمله هذه القومية من حب وتسامح وعدل وتكفل بالتزام الدعوة الاسلامية العالمية. ذاك هو عمر بن عبد العزيز، ففي أول عهده بالحكم ارسل اليه والي خراسان الجراح بن عبد الله وفدا من قبله تملقا له، وكان الوفد مؤلفا من عربيين ومن مولى يصفه الطبري بأنه كان فاضلا في دينه، فتكلم العربيان عند عمر والمولى ساكت، فقال له عمر: أ ما أنت من الوفد؟ قال: بلى. قال فما يمنعك من الكلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق... إلى أن يقول: أميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان...
هال عمر بن عبد العزيز ما سمع، وأكبر هذا المولى (عضو الوفد) على صراحته وجرأته وتقريره الحقيقة الفظيعة، فقال له: إذن مثلك فليوفد...
ما ذا يعني هذا القول؟ انه يعني ان عشرين ألف رجل من الموالي يجندون في الجيش ويساقون إلى الغزو دون ان تدفع لهم دولة (القومية العربية) درهما واحدا، وفوق ذلك فإنها لا تقدم لهم الطعام، بل إن عليهم ان يقاتلوا، وعليهم في الوقت نفسه ان يتكلفوا تدبير امر طعامهم...
عشرون ألفا في منطقة وال واحد، فإذا حسبت عدد الولاة فكم من