الشعر من حنايا نفسه فأبدع ما أبدع.
ومن الشعراء الذين وفقوا لممدوح جدير بمدحهم الشاعر محمد بن هاني الأندلسي شاعر المعز لدين الله الفاطمي الذي اطلق عليه معاصروه لقب (متنبي المغرب).
وربما كان ما يجعل ابن هاني جديرا بهذا اللقب هو أن مواضيع مدح ابن هاني للمعز، هي عين مواضيع مدح المتنبي لسيف الدولة. فقد كانت ظروف كلا الممدوحين متشابهة، وكان كلاهما مندفعا لمقاومة الخطر الخارجي المهدد للبلاد الاسلامية يومذاك بل أن مسؤولية المعز كانت أكبر، فهو مسؤول عن جبهة طويلة ممتدة على مدى شواطئ إفريقيا الشمالية كلها، ثم هو مسؤول عن الجزر الاسلامية المهددة وفي طليعتها جزيرة صقلية.
ولم يكن الوضع الإسلامي والوضع العربي يومذاك مما يقوى العزائم ويشحذ الهمم، بل كان شمل العرب والمسلمين ممزقا واختلافاتهم مشتدة، لا الهدف يجمعهم ولا الخطر يوحدهم.
وكان الأجنبي الطامع يعرف ذلك كله، وكانت نار الانتقام متأججة في نفوس البيزنطيين (الروم) الذين لم ينسهم تطاول الأيام ذكريات هزائمهم الماضية، وجلائهم عن بلاد الشام وغيرها، وكانوا يحنون للعودة إليها من جديد. بل أن نقفور فوقاس الثاني كان يهدد بالاستيلاء حتى على المدينة ومكة واستطاع تحقيق الكثير من أمانيه وفي ذلك يقول ابن هاني:
أسفي على الأحرار قل حفاظهم * لو كان يجدي الحر أن يتاسفا يا ويلكم أفما لكم من صارخ * الا بثغر ضاع أو دين عفا حتى لقد رجفت ديار ربيعة * وتزلزلت أرض العراق تخوفا فمدينة من بعد أخرى تستبى * وطريقة من بعد أخرى تقتفى والشام قد أودى وأودى أهله * إلا قليلا والحجاز على شفا هذه صرخة وطني مناضل يرى بلاده تتساقط أمام ضربات الأعداء، ويرى قومه متخاذلين، هذه صرخة وطني مناضل أكثر منها نغمة شاعر مداح.
والواقع أن المعز لدين الله الفاطمي كان في ذلك العهد أمل العرب والمسلمين وكانوا يتطلعون إليه من كل مكان، حتى من الأرض البعيدة عنه غير الخاضعة لسلطانه. فعند ما شعرت مثلا جزيرة (كريت) بالخطر الداهم، ولاحت لها طلائع الغزو مطلة من بعيد كان همها أن توصل نداءها إلى الرجل المأمول، ويحدثنا الدكتور حسن إبراهيم حسن وهو يتحدث عن كتاب (المجالس والمسايرات) للنعمان فيقول: " وعرض النعمان غير مرة لعلاقة المعز بالدولة البيزنطية فأوضح اعتماد حاكم الأندلس عبد الرحمن الناصر الأموي على الروم في صراعه مع الفاطميين، وصور ما حل بالروم وحلفائهم أمام أساطيل المعز تصويرا رائعا، وذكر الرسائل التي بعث بها أباطرة الدولة البيزنطية لاستدرار عطف المعز ومهادنته. ولأول مرة نسمع أن مسلمي جزيرة قريطش (كريت) الذي كانوا تحت الحكم العباسي يطلبون النجدة من المعز لحرب الروم. ومن دراستنا للوثائق التي تبولدت بين أهل قريطش وبين المعز لدين الله نرى ما وصلت إليه الدولة الفاطمية من وقوة ونفوذ ".
وابن هاني يدرك ذلك ويدرك أن ممدوحه أهل لما علق عليه من آمال فيقول.
لا تيأسوا فالله منجز وعده * قد آن للظلماء أن تتكشفا لقد كان المعز جديرا بالظرف الحرج الذي وضعته فيه الأيام، فلم يدع الوقت يذهب عبثا وأدرك للوهلة الأولى أنه امام خطر بري وآخر بحري قد يكون هو الأشد. لذلك صرف جهده أول ما صرفه إلى انشاء أسطول ضخم يتناسب مع المهمة الثقيلة التي تنتظره وهي حماية الشواطئ الإفريقية الشمالية من أي غزو متوقع، وبذل لهذا الأسطول أقصى ما يستطيع بذله حتى أصبح أسطوله سيد البحر المتوسط، وحتى صار مهددا للأعداء بعد أن كان الأعداء مهددين، وحتى صاروا يخشونه بعد أن كانت البلاد تخشاهم.
وقد كان هذا الأسطول أعظم ما يمكن أن يصل إليه أسطول في ذلك العصر مجهزا بأحدث الآلات الحربية والأدوات النارية. فأثار هذا الأسطول حماسة الشاعر ورأى فيه المخرج من الأخطار والحماية من النوازل، وهاج فيه اعتزازه وحميته، فانطقه ذلك بقصيدة هي بحق من فرائد الشعر العربي:
لك البر والبحر العظيم عبابه * فسيان أغمار تخاض وبيد وما راع ملك الروم الا اطلاعها تنشر أعلام لها وبنود عليها غمام مكفهر صبيره * له بارقات جمة ورعود مواخر في طامي العباب كأنه * لعزمك باس أو لكفك جود أنافت بها أعلامها وسمالها * بناء على غير العراء مشيد من الراسيات الشم لولا انتقالها * فمنها قنان شمخ وريود من الطير إلا أنهن جوارح * فليس لها إلا النفوس مصيد من القادحات النار تضرم للصلى * فليس لها يوم اللقاء خمود إذا زفرت غيظا ترامت بمارج * كما شب من نار الجحيم وقود فأنفاسهن الحاميات صواعق وأفواههن الزافرات حديد لها شعل فوق الغمار كأنها دماء تلقتها ملاحف سود تعانق موج البحر حتى كأنه * سليط لها فيه الذبال عتيد ثم يصف وصول وفود الروم متذللة تطلب الصلح مخاطبا المعز مشيرا إلى ما كان من تغلغل الروم قبل ذلك في بلاد الشام:
فلا غرو أن أعززت دين محمد * فأنت له دون الأنام عقيد غضبت له أن ثل في الشام عرشه * وعادك من ذكر العواصم عيد وقلت أناس ذا (الدمستق) شكره * إذا جاءه بالعفو منك بريد تناجيك عنه الكتب وهي ضراعة * ويأتيك عنه القول وهو سجود إذا أنكرت فيها التراجم لفظه * فأدمعه بين السطور شهود ليالي تقفو الرسل رسل خواضع * ويأتيك من بعد الوفود وفود ويمضي الأسطول العربي في أداء رسالته، وتجوب قطعه البحر المتوسط متحدية كل من تحدثه نفسه بالشر، وتعلن سفنه بنفسها عن نفسها، ثم تلتقي على غير موعد بسفن الأعداء فلا تلبث أن تصطدم بها، ويتهاوى الفريقان في نار الوغى ويتجالدون أعنف جلاد، تحفز الروم ثارات متأصلة وأوتار دفينة...
وتحفز العرب اخطار منتظرة وشرور مرتقبة ويتطلع العرب بقلوبهم إلى الوطن العربي العزيز ويتخيلون ما ذا سيحل بتلك الأرض الطيبة، إذا هم تزحزحوا عن موقفهم أو تزلزلوا في حربهم فيندفعون مكبرين وينطلقون مهللين فتنجلي المعركة عن نصرهم البحري الحاسم في معركة المجاز. ويكون الشاعر معهم