جديدة في اللغة العربية، فالشعر فيها يتصل بمنابع عقلية لا صلة بينها وبين المنابع القديمة التي كان يستمد منها الشعراء ".
ويقول الدكتور نعمان القاضي: "... لم يكن شاعرا على الطريقة المألوفة وإنما كان شعره لونا جديدا على الذوق العربي التقليدي ومحاولة رائدة في إدخال الشعر العربي من باب جديد، واستمدادا لمنابع عقلية جديدة، وصياغته صياغة فكرية لم يسبق إليها، تتحول بالشعر العربي من مجال العاطفة إلى مجال الفكر والعقل المحض ومحاولة التصدي للتعبير عن نظرية مذهبية مدعمة بالنظر العقلي وطرائق المتكلمين ووسائلهم في الاحتجاج والاستدلال حتى ليخرج ديوانه الهاشميات نصا طريفا لمذهب الزيدية بكل تفاصيله ووقائعه بل أنه ليتجاوز ذلك إلى الاستدراك على كتاب الملل والنحل الذي أغفل بعض مبادئ الزيدية كفكرة العدل ".
وهكذا يبدو لنا الكميت خطيبا جدلا، داعية إلى الثورة، هكذا يبدأ الكميت القصيدة من هاشمياته:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب * ولا لعبا مني، وذو الشيب يلعب ولم يلهني دار ولا رسم منزل * ولا يتطربني بنان مخضب ولا أنا ممن يزجر الطير همه * اصاح غراب أم تعرض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية * امر سليم القرن أم مر أعضب ولكن إلى أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب إلى النفر البيض الذين بحبهم * إلى الله، في ما نالني أتقرب بني هاشم رهط النبي، فإنني * بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب يستفيد الشاعر من تعود الناس على تقليد شعري، ويفاجئهم برفضه الذي يأتي على شكل صدمة تنبههم، ويملك أنفاسهم مشوقا إلى أن يصرح بغرضه وقد صرخوا، كما فعل الفرزدق عندما أتى يسأله إن كان يذيع هذا الشعر أم لا: " من هؤلاء ويحك!؟ "، وينتهي بهم الأمر إلى الاستجادة، كما قال الفرزدق أيضا له، بعد معرفته من هم هؤلاء الذين يطرب لهم: " أذع يا بن أخي وأنت والله أشعر من مضى ومن بقي ". ويكون هذا الرضى عن الشعر والشاعر الزاد المرافق طوال التعرف على باقي اجزاء القصيدة الهادفة إلى ايصال المتلقي إلى موقف الشاعر.
هذه المقدمة الشادة تسلم المتلقي إلى التماس مباشرة مع مسألة أساسية في المذهب الشيعي، وقد كانت محرجة لخصومهم الذين يحكمون باسم الدين ويضطهدون آل النبي ومن يحبهم. وهذه حقيقة تاريخية لا يفيد فيها اغماض العينين عنها والقول كالجاحظ مثلا: من يعيب على الكميت حبه لآل محمد الا كافر؟ فقد كانوا يعيبون عليه حبه لآل محمد، ويضطهدون من يحبهم.
والأحداث التاريخية شاهد على هذا، لأن القضية لم تكن حبا لمجرد الحب، وإنما كانت قضية سياسية، أو مسالة مركزية في السياسة الاسلامية، من حيث تقرير حق الخلافة، فالعيب والاضطهاد لم يكونا من أجل الحب وإنما من أجل ما يقرره هذا الحب من أحقية بالخلافة، وكان الكميت واعيا هذه القضية تمام الوعي وقد استغلها كأفضل ما يكون الاستغلال مثيرا الناس على هؤلاء الذين يرون حب آل النبي عارا، والذين يخيفون من يحبهم. ويستخدم الشاعر وسائل كالاستفهام والتقرير والتضمين بآيات القرآن. والمقابلة لحب آل البيت والمصاب بالجرب. والتكرار المؤكد " ترى... وتحسب، أعنف، وأؤنب... ". والمتلقي يخرج من هذا التماس، ان لم يكن متبنيا لموقف الشاعر، فعلى الأقل متعاطفا معه أو كحد أدنى يخرج مثارا غير مطمئن وغير هادئ، ويغدو يريد إجابة على جملة من الأسئلة يطرحها هذا التحريض وتثيرها هذه الإثارة:
... بأي كتاب أم بآية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب وجدنا لكم في حم (1) آية * تأولها منا تقي ومعرب ألم ترني في حب آل محمد * أروح وأغدو خائفا أترقب كأني جان محدث وكأنما * بهم يتقي من خشية العر أجرب على أي جرم أم بآية سيرة * أعنف في تقريظهم وأؤنب والداعية لا يترك المتلقي مثارا حائرا، وإنما ينطلق معه في جولة جديدة وهذه المرة تختلف، إذ أنها تطول الأمر في العمق. يحكم الأمويون لأنهم من قريش، وقريش تحكم لأنها رهط النبي، إذا هم يحكمون باسم هذا الذي يؤنب في حبه! يحكمون بسبب هذا الذي يعتبر حبه وحب آل بيته عارا، وجرما ويعامل محبه وكأنه أجرب. من هذا المنطلق، يناقش مسألة " الإرث " أو الحق بالخلافة، من منطق الأمويين أنفسهم الذين يتناقضون عندما يروون: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " و " إنما الأئمة من قريش "، فلم من قريش؟ أليس بسبب النبي؟ إن كان الأمر هكذا، فكيف لا يورث:
يقولون لم يورث ولولا تراثه * لقد شركت فيه بكيل وأرحب وعك ولخم والسكون وحمير * وكندة والحيان بكر وتغلب ولانتشلت عضوين منها يحابر * وكان لعبد القيس عضو مؤرب ولانتقلت من خندف في سواهم * ولامتدحت قيس بها ثم اثقبوا ولا كانت الأنصار فيها أذلة * ولا غيبوا عنها إذا الناس غيب هم شهدوا بدرا وخيبر بعدها * ويوم حنين، والدماء تصبب ولكن مواريث ابن آمنة الذي * به دان شرقي لهم ومغرب فإن هي لم تصلح لقوم سواهم فإن ذوي القربى أحق وأقرب الفكرة بسيطة جدا، إذا كان الرسول لم يورث، كما يقولون، فالخلافة من حق العرب جميعا، كما يقول الخوارج الذين يجعلونها من حق المسلمين جميعا، ولكن طالما أن الخلافة محصورة في قريش وليست من حق باقي القبائل فهذا بسبب تراثه: " لولا تراثه " " ولكن مواريث ابن آمنة "، والتراث أحق الناس به ذوو القربى، ولولا تراث النبي لكانت هذه القبائل جميعا لها الحق بالخلافة وبخاصة الأنصار الذين لهم اليد الطولى في نصرة الإسلام، وتراث النبي أولى به ذوو قرباه. وهكذا يوصل الكميت متلقي دعوته إلى دف ء اليقين عبر التشويق والإثارة والإقناع.
وكان هذا دأب الكميت في هاشمياته جميعا، أنه في الهاشمية الرابعة يبدأ بإيقاظ الأمة من نعستها:
ألا هل عم في رأيه متأمل * وهل مدبر بعد الإساءة مقبل!
وهل أمة مستيقظون لرشدهم * فيكشف عنه النعسة المتزمل!
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى * مساويهم لو كان ذا الميل يعدل!
لا أظن أن هذا الإيقاظ للأمة من كراها ارتداد على الذات بالعدوان،