بحيث يعد صمام أمان للسلطان، وإنما هو شد للناس إلى رؤية واقع مرير، وانهاضهم كي يلمسوا ما صارت إليه أمورهم. ولنلاحظ قبل أن نرى عرضه لواقع الحال، هذا التساؤل الممتد المتعجب في البيت الأول. والذي يأخذ مداه ومعناه في المقابلة بين (عم متأمل) وبين (مدبر ومقبل) دون أن ننسى هذا الايضاح، بعد الإساءة، لتبيان مدى فظاعة هذا الادبار.
يعرض الكميت الوضع الذي يدعو إلى الثورة ويناقش مسألة على غاية من الأهمية، وحسمها ضروري للخروج على السلطان، وأعني بها أن يصل المرء إلى درجة من الاقتناع بالأمر ومن التبني له تدفعه لأن يضحي بحياته من اجله.
ويعود الكميت إلى هذه المسألة مرة أخرى في آخر القصيدة، ويرى الباحثون في موقفه هذا وقوفا منه عند حد التأييد دون المخاطرة ببذل النفس ويرون أنه قاله عند خروج زيد. والواقع أن القصيدة نظمت قبل خروج زيد بمدة طويلة.
وان التطرق إلى هذه القضية كان في نطاق مناقشة أمر مهم جدا وحسمه ضروري من أجل نجاح الثورة.
لاحظ الكميت أن قلوب الناس مع آل البيت ولكنهم يخافون السيف فعرض للأمر في أوائل القصيدة مؤكدا أن حياة كالتي تعاش ليست بذات قيمة:
وعطلت الأحكام حتى كأننا * على ملة غير التي نتنحل ... رضينا بدنيا لا نريد فراقها * على أننا فيها نموت ونقتل ونحن بها مستمسكون كأنها * لنا جنة مما نخاف ومعقل أرانا على حب الحياة وطولها * يجد بنا في كل يوم ونهزل فتلك أمور الناس أضحت كأنها * أمور مضيع آثر النوم بهل ثم يعود إليه في أواخر القصيدة، وكأنه يريد أن يقطف الثمرة التي انضج، وهنا يتحدث عن الناس، ولكن بلسانه، بحيث يصل ومتلقيه إلى:
فيا رب عجل ما يؤمل فيهم * ليدفأ مقرور ويشبع مرمل وينفذ في راض مقر بحكمه وفي ساخط منا الكتاب المعطل - فإنهم للناس... غيوث حيا، أكف ندى... عرى ثقة... مصابيح تهدي.. ولكن كيف يتم التعجيل؟ ويجيب:
لهم من هواي الصفو ما عشت خالصا ومن شعري المخزون والمتنخل...
تجود لهم نفسي بما دون وثبة تظل بها الغربان حولي تحجل لا يزال الشاعر يعالج هذه المسألة، مسألة بذل النفس، ويقول بلسانه ولسان الآخرين أنه يضحي بكل شئ إلا بالحياة. أنه من هذا الموقف ينفذ إلى الموقف الذي يريد أن يصل إليه، فقد أوصل المتلقي إلى تمنيهم وإلى تأييدهم، ثم ينطلق به، ليصل معه إلى حيث لا يقف التأييد عند حدود ولهذا يكمل، وهنا يصبح الحديث مع النفس.
وقلت لها بيعي من العيش فانيا... أتتني بتعليل ومنتني المنى... وقد يقبل الأمنية المتعلل... ".
ثم يحسم الأمر وهذا ما يريد الوصول إليه:
وإن أبلغ القصوى أخض غمراتها * إذا كره الموت اليراع المهلل إذا، عندما يجب " يخض غمراتها "، رغم ما يظهره من مداراة وتقية:
ويضحي أناة والتقيات منهم * أداجي على الداء المريب وأدمل...
هذا هو الموقف الذي يريد الكميت ايصال متلقيه إليه، التهيؤ للخروج باقتناع كامل وبذل مطلق، عندما تبلغ الأمور الدرجة القصوى. ونحن أن كنا نريد الحكم للكميت، أو الحكم عليه، لا يجب أن نقتطع بيتا ونقول هذا يمثل موقف الكميت من القضية... معتقدين أن البيت يمثل الوحدة في القصيدة العربية. وهذه الرؤية التي تحاكم القصيدة كأبيات منطلقة من ترداد غير مستند إلى قراءة في التراث مخطئة. وقد بينا هذا لدى حديثنا عن قصيدة المديح والنقيضة وقصيدة الغزل ونعيد هنا فنقول: يجب أن ننظر برؤية شاملة إلى القصيدة كوحدة متكاملة، والموقف يؤخذ منها كاملة وإن كان من وجود مستقل للبيت، فهو وجود آخر يختلف عن ذلك الذي يندرج في اطار القصيدة. وهو ما يراه النقاد في وجود اجزاء القصيدة الحديثة: فلم يرون رؤيتين! لعله الكسل وترديد ما اتبع وقيل. ولهذا ما كان ممكنا للشاعر أن يصل ومتلقيه إلى النتيجة التي رأينا دون أن يناقش الساسة مسائلهم، إضافة إلى ما بدأ به من ايقاظ لرؤية واقع. يقول الكميت:
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم * ففيكم لعمري ذو أفانين مقول أأهل كتاب نحن فيه وأنتم * على الحق نقضي بالكتاب ونعدل يقود هذا التساؤل إلى عرض يبلغ فيه الذروة في استخدام الوسائل الفنية، يكثف السؤال ويعرض صورتين متقابلتين:
فكيف ومن انى وإذ نحن خلفة * فريقان شتى تسمنون، ونهزل؟
من يقرأ: " فكيف ومن أنى وإذ " و " تسمنون ونهزل "! مفردة يحكم حكما مخالفا لحكمه لو قرأها في إطارها، إنها ليست صناعة، ولكنها حشد لوسائل توصل إلى الغرض. وهذا هو الفرق بين أن تكون الوسائل في خدمة الشاعر وبين أن يكون الشاعر في خدمتها.
ثم يفصل عارضا صورة توضح حقيقة ما هم عليه:
برينا كبري القدح أوهن متنه * من القوم لأشار ولا متنبل، ولنلاحظ هذه السخرية المستخدمة الفاظا غريبة وكأن هذه الألفاظ الغريبة صورة كاريكاتورية مبرزة:
ولاية سلغد ألف كأنه * من الرهق المخلوط بالنوك أثول كأن كتاب الله يعنى بأمره * وبالنهي فيه الكودني المركل ألم يتدبر آية فتدله * على ترك ما يأتي أم القلب مقفل وينتقل الشاعر إلى الهجوم المباشر مستخدما أيضا وسائل كالتكرار " فحتى م حتى م، أيتموا وأثكلوا، خبال مخبل " وكالاستفادة من الأمثلة العربية " كلبة حومل... كانت تربطها صاحبتها في الليل لتحرسها وتطردها في النهار، وكنار الحالفين التي كان يضاف إليها الملح "...
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم * فحتى م حتى م العناء المطول رضوا بفعال السوء من أمر دينهم * فقد أيتموا طورا عداء وأثكلوا كما رضيت بخلا وسوء ولاية * لكلبتها في أول الدهر حومل نباحا إذا ما الليل اظلم دونها * وضربا وتجويعا.. خبال مخبل