لا تهين الفقير علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه وإنما خص الركوع بالذكر هنا، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم، وقيل لكونه كان ثقيلا على أهل الجاهلية وقيل إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة. والركوع الشرعي: هو أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا ذاكرا بالذكر المشروع. وقوله (مع الراكعين) فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد. وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف. وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عينا أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب، وهو الحق للأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة من الصحابة، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام. والبحث طويل الذيول، كثير النقول، والهمزة في قوله (أتأمرون الناس بالبر) للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله (وتنسون أنفسكم) مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاما للناس وتلبيسا عليهم كما قال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى * وريح الخطايا من ثيابك يسطع والبر: الطاعة والعمل الصالح، والبر: سعة الخير والمعروف، والبر: الصدق، والبر: ولد الثعلب، والبر: سوق الغنم، ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر:
لأهم رب أن يكونوا دونكا * يبرك الناس ويفجرونكا أي يطيعونك ويعصونك. والنسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ: أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة. والنفس: الروح، ومنه قوله تعالى - الله يتوفى الأنفس حين موتها - يريد الأرواح. وقال أبو خراش * نجا سالم والنفس منه بشدقه * والنفس أيضا الدم * ومنه قولهم: سالت نفسه، قال الشاعر:
تسيل على حد السيوف نفوسنا * وليس على غير الظبات تسيل والنفس الجسد، ومنه:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا * أبياتهم تأمور نفس المنذر والتأمور البدن. وقوله (وأنتم تتلون الكتاب) جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت:
أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرءونها من التوراة. والتلاوة: القراءة، وهي المراد هنا وأصلها الاتباع، يقال تلونه: إذا تبعته، وسمى القارئ تاليا والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه. وقوله (أفلا تعقلون) استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، وهو أشد من الأول وأشد، وأشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أولا أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع وتأدوا به في المجالس إيهاما للناس بأنهم