مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعرى:
وإنما حمل التوراة قارئها * كسب الفوائد لا حب التلاوات ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال: إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلا بينكم وبين ذلك ذائدا لكم عنه زاجرا لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم. والعقل في أصل اللغة: المنع، ومنه عقال البعير، لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني. والعقل نقيض الجهل، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة: أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ويصح أن يكون معنى الآية: أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم. وقوله (واستعينوا بالصبر) الصبر في اللغة: الحبس، وصبرت نفسي على الشئ: حبستها. ومنه قول عنترة.
فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع والمراد هنا: استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة. واستدل هذا القائل بقوله تعالى - وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها - وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة. واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله - وإنها لكبيرة - فقيل إنه راجع إلى الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر والصلاة فقد.
يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما. كما قال تعالى - والله ورسوله أحق أن يرضوه - إذا كان أحدهما داخلا تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود * ما لم يعاض كان جنونا ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعا إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه، وقيل إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقا، وقيل إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مرادا معها، لكن لما كانت آكد وأعم تكليفا وأكثر ثوابا كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله - والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله - كذا قيل، وقيل إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى - وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها - فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعا وأكثر وجودا، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض، والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أن الصبر هناك جعل داخلا تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلا وإن كان مرادا، وقيل إن المراد الصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، ومنه قوله تعالى - وجعلنا ابن مريم وأمه آية - أي ابن مريم آية وأمه آية. ومنه قول الشاعر:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني وقيار بها لغريب