أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الأمم، ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة، والمقصود بالذات الحث على انتهاز الفرصة انتهى. وأقول: ليس هذا بشئ، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى وأنه أعاد ما صدر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون - فإن هذه الآية مع كونها أول الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة هي أيضا أول بأن تعاد وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم والوفاء بالعهد والرهبة لله سبحانه، وبهذا تعرف صحة ما قدمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال: كرره تعالى إظهارا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله، وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعا لطرفي الثناء، وفي تفهيمه جامعا لمعاني طرفي المعنى انتهى. وأقول: لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك. وأما قوله وليتخذ ذلك أصلا لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان وتقرره في الأفهام لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول، فليس في تكليف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر. قوله (وإذ ابتلى) الابتلاء: الامتحان والاختبار: أي ابتلاه بما أمره به، و (إبراهيم) معناه في السريانية أب رحيم، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية: ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظا فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره، أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بايضاحه. وقوله (بكلمات) قد اختلف العلماء في تعيينها، فقيل هي شرائع الإسلام، وقيل ذبح ابنه، وقيل أداء الرسالة، وقيل هي خصال الفطرة، وقيل هي قوله - إني جاعلك للناس إماما - وقيل بالطهارة كما سيأتي بيانه. قال الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله (قال إني جاعلك) وما بعده، ويكون ذلك بيانا للكلمات، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله (قال إني جاعلك) مستأنفا كأنه ماذا قال له. وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشئ منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال: فلو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب: يعني أن الكلمات هي قوله (إني جاعلك للناس إماما) وقوله (وعهدنا إلى إبراهيم) وما بعده. ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله (فأتمهن) أي قام بهن أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال. والإمام: هو ما يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام وللبناء إمام، لأنه يؤتم بذلك: أي يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله (ومن ذريتي) يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته: أي ومن
(١٣٧)