الله سبحانه بوجه من الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب، قال بهذا جماعة من المفسرين. وقال بعض المفسرين: إن في الكلام حذفا، والتقدير: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها) وقوله (يفسد) قائم مقام المفعول الثاني. والفساد: ضد الصلاح وسفك الدم: صبه، قاله ابن فارس والجوهري:
ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وواحد الدماء دم، وأصله دمي حذف لامه، وجملة ونحن نسبح بحمدك حالية والتسبيح في كلام العرب: التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم. قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر و (بحمدك) في موضع الحال: أي حامدين لك، وقد تقدم معنى الحمد. والتقديس: التطهير، أي ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه الجاحدون. وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه والتأسيس خير من التأكيد خصوصا في كلام الله سبحانه. ولما كان سؤالهم واقعا على صفة تستلزم إثبات شئ من العلم لأنفسهم. أجاب الله سبحانه عليهم بقوله (إني أعلم ما لا تعلمون) وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم مالا يعلم المخاطب له كان حقيقا بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة. ولم يذكر متعلق قوله (تعلمون) ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور، وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ (إني جاعل في الأرض خليفة) وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا نحوه وزاد. وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعل أولئك الجان فقال الله (إني أعلم مالا تعلمون) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أطول منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي فاطلع الله على ذلك منه فقال للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة) قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا ربنا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون) وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: قد علمت الملائكة وعلم الله أنه لا شئ أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال:
إياكم والرأي، فإن الله رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله قال (إني جاعل في الأرض خليفة) قالت الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها) قال (إني أعلم مالا تعلمون). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سابط أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " دحيت به الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت " فهي أول من طاف به وهي الأرض التي قال الله (إني جاعل في الأرض خليفة) قال ابن كثير: وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك انتهى. وأخرج