الهمزة في قوله (أفلا يتدبرون) للإنكار، والفاء للعطف على مقدر: أي أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه يقال تدبرت الشئ: تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، ودلت هذه الآية، وقوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه. والمعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفا غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغا في البلاغة إلى أعلى درجاتها (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) أي تفاوتا وتناقضا، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور، لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحا مطابقا للواقع إلا القليل النادر. قوله (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يقال أذاع الشئ وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شئ عليهم في ذلك.
قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم) وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشي وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. قوله (ولو فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) أي لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله وإنزال كتابه لا تبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا منكم، وقيل المعنى: أذاعوا به إلا قليلا منهم فإنه لم يذع ولم يفش، قاله الكسائي والأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا منهم، قاله الزجاج.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) يقول: إن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف. وأخرج عبد ابن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه. ونزلت هذه الآية (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال هذا في الإخبار إذا غزت