والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله (منهم من كلم الله) أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا. فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة (ولكن اختلفوا) استثناء من الجملة الشرطية: أي ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافا عظيما حتى صاروا مللا مختلفة (منهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) لا راد لحكمه، ولا مبدل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى (فضلنا بعضهم على بعض) قال: اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله وكلمته وروحه، وآتى داود زبورا وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد في قوله (منهم من كلم الله) قال: كلم الله موسى، وأرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي في قوله (ورفع بعضهم درجات) قال: محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) يقول: من بعد موسى وعيسى. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاوية: " أتحب عليا؟ قال: نعم قال: إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة، قال معاوية فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال: عفو الله ورضوانه، قال: رضينا بقضاء الله، فعند ذلك نزلت هذه الآية (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) " قال السيوطي: وسنده واه.
ظاهر الأمر في قوله (أنفقوا) الوجوب، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوع. قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله. قال القرطبي: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجبا، ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه.
قوله (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) أي أنفقوا ما دمتم قادرين (من قبل أن يأتي) مالا يمكنكم الإنفاق فيه وهو (يوم لا بيع فيه) أي لا يتبايع الناس فيه. والخلة: خالص المودة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع ولا خلة ولا شفاعة، من غير تنوين، وقرأ الباقون برفعها منونة، وهما لغتان مشهورتان للعرب، ووجهان معروفان عند النحاة، فمن الأول قول حسان:
ألا طعان ألا فرسان عادية * ألا يحشئوكم حول التنانير ومن الثاني قول الراعي:
وما صرمتك حتى قلت معلنة * لا ناقة لي في هذا ولا جمل ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ونصب البعض كما هو مقرر في علم الإعراب. قوله (والكافرون