في الأصل: عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت، وهي هنا: عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت. وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا، وقالت طائفة: إنها واجبة. ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين، فقيل الخمس، وقيل الربع، وقيل الثلث. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا وصية لوارث " وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروى من غير وجه. وقال بعض أهل العلم:
إنه نسخ الوجوب ونفى الندب، وروى عن الشعبي والنخعي ومالك. قوله (بالمعروف) أي العدل لا وكس فيه ولا شطط. وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. وقوله (حقا) مصدر معناه الثبوت والوجوب. قوله (فمن بدله) هذا الضمير عائد إلا الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله (سمعه) والتبديل: التغيير، والضمير في قوله (فإنما إثمه) راجع إلى التبديل المفهوم من قوله (بدله) وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شئ، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به. قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شئ من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر انتهى. والجنف: المجاوزة، من جنف يجنف: إذا جاوز، قاله النحاس، وقيل الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة يا فتى * وما قصدت من أهلها لسوائكا قال في الصحاح: الجنف الميل، وكذا في الكشاف. وقال لبيد:
إني امرؤ منعت أرومة عامر * ضيمي وقد جنفت علي خصومي وقوله (فأصلح بينهم) أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله (بينهم) راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدم لهم ذكر، لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق، وقيل راجع إلى الموصى لهم، وهم الأبوان والقرابة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن ترك خيرا) قال: مالا. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال لا؟
إنما قال الله (إن ترك خيرا) وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة، أن رجلا قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله (إن ترك خيرا) وإن هذا شئ يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل.