وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله، وإنما أخر لفظ " على " في شهادة الأمة على الناس، وقدمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأول: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. وقوله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) قيل المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس: أي ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيد هذا قوله (كنت عليها) إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة، وقيل المراد الكعبة: أي ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون (كنت) بمعنى الحال، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفا لليهود ثم صرف إلى الكعبة. وقوله (إلا لنعلم) قيل المراد بالعلم هنا الرؤية، وقيل المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك، وقيل ليعلم النبي، وقيل المراد لنعلم ذلك موجودا حاصلا، وهكذا ما ورد معللا بعلم الله سبحانه لا بد أن يؤول بمثل هذا كقوله - وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء -. وقوله (وإن كانت لكبيرة) أي ما كانت إلا كبيرة، كما قاله الفراء في أن وإن أنهما بمعنى ما وإلا. وقال البصريون: هي الثقيلة خففت، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) من التحويلة أو التولية أو الجعلة أو الردة، ذكر معنى ذلك الأخفش ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة: أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم، وهذا الاستثناء مفرغ لأن ما قبله في قوة النفي: أي أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال: فسمى الصلاة إيمانا لاجتماعها على نية وقول وعمل، وقيل المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وآله وسلم للآية بذلك. والرؤوف كثير الرأفة، وهي أشد من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب. وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع " لروف " بغير همز، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عتبة:
وشر الغالبين فلا تكنه * يقاتل عمه الروف الرحيم وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولي وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال، وقتلوا فلم ندر ما يقول فيهم، فأنزل الله (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) وله طرق أخر وألفاظ متقاربة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال إن أول ما نسخ في القرآن القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما تحول إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرفه الله إلى الكعبة. وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم