قوله (سيقول) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل إن (سيقول) بمعنى قال:
وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمرار عليه وقيل إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الاخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوينا لصدمته وتخفيفا لروعته وكسرا لسورته. والسفهاء جمع سفيه، وهو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة. وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس. وقد تقدم في تفسير قوله (إلا من سفه نفسه) ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى (ما ولاهم) ما صرفهم (عن قبلتهم التي كانوا عليها) وهي بيت المقدس، فرد الله عليهم بقوله (قل لله المشرق والمغرب) فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. وفي قوله (يهدى من يشاء) إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم. وقوله (وكذلك جعلناكم) أي مثل ذلك الجعل جعلناكم، قيل معناه: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا. والوسط الخيار أو العدل، والآية محتملة للأمرين، ومما يحتملهما قول زهير:
هم وسط ترضى الأنام بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ومثله قول الآخر: أنتم أوسط حي علموا * بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي، فوجب الرجوع إلى ذلك ومنه قول الراجز:
لا تذهبن في الأمور مفرطا * لا تسألن إن سألت شططا * وكن من الناس جميعا وسطا ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا: أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم: أي خيارهم. وقوله (لتكونوا شهداء على الناس) أي يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيدا على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا -، قيل إن قوله (عليكم) يعني لكم: أي يشهد لهم بالإيمان، وقيل معناه: يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جئ بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى - والله على كل شئ شهيد - كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد - انتهى. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، وقيل المراد لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول،