بل الوجه ما ذكرنا من أن المعاقدة مع الغير الذي له التزام باق في النفس لا يعقل إلا مع شعوره والتفاته فعلا إلى المعاقدة معه، وإلا كانت معاقدة مع من هو كالجدار في أفق المعاقدة، وإن كان حيا شاعرا في أفق آخر، كالميت المؤمن الكامل، فإنه وإن كان حيا شاعرا ملتفتا إلى من يتكلم معه ويلتزم له إلا أن المدار في باب المعاهدات العرفية على المعاهدة بين اثنين في هذه النشأة.
ومما ذكرنا ظهر أن استمرار الأهلية بين الايجاب والقبول غير لازم، فإن مقوم المعاهدة مع الغير التفاتهما وشعورهما حال كون كل منهما معاقدا مع الآخر، وقد عرفت أن النوم والاغماء فضلا عن غيرهما لا يوجب زوال الالتزام، حتى يعتبر استمرار الأهلية لبقاء الالتزام.
- قوله (رحمه الله): (فإن حقيقة الوصية الايصاء... الخ) (1).
أما أن حقيقة الوصية العهدية ايصاء الغير - غاية الأمر له رده لا أنه يتعاقد معه على عمل - فهو مما لا ينبغي الشبهة فيه، ولذا لا ريب في تحقق الوصية بالحمل الشايع ولو مع عدم التفات الوصي، فقبوله قبول الوصية ورده ردها.
وأما الوصية التمليكية فحقيقتها جعل شئ ملكا لغيره بعد موته، لا المعاقدة مع الغير على الملكية، غاية الأمر أن ادخال شئ في ملك أحد من دون رضاه نحو سلطنة على الغير، وليس من شؤون السلطنة على المال السلطنة على الغير، فلا محالة يتوقف نفوذ التمليك على رضاه أو عدم رده على الخلاف.
ومن الواضح أن مجرد التمليك المنوط بالرضا لا يستدعي شعور المتملك به حال التمليك، وإنما كان هذا المعنى من شؤون المعاهدة مع الغير، فإن أريد من عقدية الوصية أنها تعاقد مع الغير على ملكية شئ فهو ممنوع، بل حقيقته تمليك الغير، فهو من هذه الحيثية كالايقاعات، وإن أريد من عقديتها توقف تأثيرها على رضا الموصى له فهو لا يوجب تحقق المعاقدة مع الغير، فتفارق الايقاعات في هذه