أكواخهن باسمات الثغور مشرقات الوجوه حيث يتلاقين بأمهاتهن ويبتسمن هؤلاء لهن ابتسامة الرضا والحبور التي تفيض على جوانبها جميع معاني السعادة تلك الابتسامة الساذجة البريئة - التي قلما تجدها تنطبع على ثغور الحضريات المتصنعات كأنها لغة النفس وحديث العواطف وأنشودة القلوب الطاهرة تتألف ألحانا ناطقة بعرفان الجميل لهاتيك الفتيات الصغيرات على خدمتهن...
في ذلك المكان - حيث الجو صاف والهواء نقي والحياة ورادعة - اعتاد طلاب العلم في هذه المدينة المقدسة أن ينتزهوا في أيام العطلة كيومي (الخميس والجمعة) ترويحا للنفس وإنعاشا للفكر مما يعتريه في أثناء التحصيل من عناء البحث ومطالعة الكتب العلمية وقد ساقتني التقادير في أحد الأيام إلى ذلك المكان فوجدت فيه فئة من إخواننا العامليين جالسة هناك تنشد الشعر وهي تزيد على عشرة أشخاص (وكنت عرفت هذه الفئة في أيام التحصيل لا تفتر عن المذاكرة في المسائل العلمية أينما جلست) فأكبرت هذه الروح الاجتماعية الصافية التي وحدت أرواحها سلامة النية وصفاء الجوهر والنظر إلى الأمور العامة مجردا من كل أنانية، وعلمت كلها بؤسا وتعاسة.
وقفت أتسمع تلك الأناشيد العذبة وإذا بالأديب الظريف الخفيف الروح الشيخ جعفر همدر يهتف منشدا:
لم يشك موسى مثل ما موسى شكا * من قوم (فرعون) الخبيث العاتي ما هذا يا شيخ جعفر وما معناها؟؟ فقال ألا تدري ألا تعرف أن صديقنا الشيخ موسى شراره سرقت جبته وساعته قبل أيام قليلة من غرفته وذلك إذ نزل صباح يوم لتناول الشاي من الدرج الداخلي واتفق أنهم فتحوا باب الدرج الخارجي لطارق طرق ولم يدر بخلد أحد أن يصعد منه ذلك اللص الخبيث بظرف خمس دقائق ويسرق ما ذكرته لك بدون أن يشعر به أحد قاتله الله ما أمهره. قلت نعم سمعت وما علاقة ذلك بهذا الشعر فقال (بلى مولانا) أصبر حتى نتم حديثنا ثم مضى قائلا وبالنظر لهذه (النكبة) فقد اقترح صديقنا الشيخ محمد جواد مغنية أن نقيم لهذه (الفاجعة) حفلة تأبينية ونقتص للشيخ موسى من ذلك السارق اللئيم فهل عرفت الآن علاقة الشعر بتلك القضية؟
قلت وقد أنعشتني هذه الروح حياكم الله كأنكم رأيتم هذه (الساقية) عارية ليس على جوانبها شئ من الورود والرياحين فأبى لكم وفاؤكم إلا أن تضعوا على حواشيها إضمامة من الورد وباقة من الريحان لتكون تذكارا خالدا جزاء لما تدخله على قلوبكم من السرور وهكذا يأبى وفاؤكم لكم أن تمروا بأرض يكون لها أثر طيب في نفوسكم دون أن تدعوا لها من الآثار الجميلة ما تعجز عن أن تفيكم بعضه فقد سمعناكم قبل هذه المرة تنشدون ما يشبه هذه الأناشيد على طريق كربلا تلك التي قرأناها في مجلة الطالب البيروتية...
فقال (بل مولانا) هكذا ينبغي للإنسان أن تفيض نفسه بالجمال حينما يمر على الجمال وهو ما يسمونه بالفعل المنعكس علميا أما أولئك الذين تفيض نفوسهم قذارة وخسة حينما يمرون بالجمال فلا يستحقون أن يطلق عليهم اسم (البشر). قلت: إني مؤمن بهذه النظرية، وكأنه ارتاح لموافقتي له، فقال تؤمن بها إذن هيا بنا لنقيم الدليل لهؤلاء الإخوان على صحتها فإنهم حرقوا نفسي بنزاعهم. قلت: لأقف هنا فإن هذا موضوع خطير لا يسعنا الدخول به فعلا لأنا لم نأت لهذا المكان إلا لراحة النفس لا للنزاع والجدال إذ يكفينا منهما أيام التحصيل فإنها كلها تمضي بالمذاكرة والبحث كما أشرنا إليه، فوضع يده على ذقنه وقال (يا حيف يا حيف هتشي) وهنا وقف الحوار وقد أحببت نقل هذه الأبيات مع أبيات رفاقه لمجلتنا العرفان المحبوبة لما بها من الشعور الفياض والحس المتأثر ولي الوطيد بأن تكون هذه الشعلة كوكبا وهاجا في مستقبل الحياة وخيوطا متينة في نسيج النهضة العاملية وأليكها:
فمن أبيات الشيخ جعفر همدر:
لم يشك مثل ما موسى شكا * من قوم فرعون الخبيث العاتي مما يزيد بليتي ومصيبتي * ويهيج الأحزان والزفرات إني فقدت ملابسي وعباءتي * وسويعتي في أحرج الأزمات إن الثياب مصيرها ومآلها * نحو الفناء بأقرب الأوقات من كان مثلك لابسا ثوب العلى * أو يعتني باللبس والبذلات؟؟
يا لص ما لك قد أتيت إلى أمرء * خال غدا حتى من (البيزات) فسرقت منه جبة وعباءة * وسويعة من أجمل الساعات وتركت أرباب الفلوس ومن غدت * أجيابهم ملأى من (الليرات) مهلا أخي ولا تكن متأسفا * واصبر على نوب الزمان العاتي زمن علا فيه الوضيع وأصبحت * أحراره تخشى من الحشرات ومن أبيات الشيخ محمد جواد مغنية وكأنه يتكلم بلسان المسروق ويرمي بذلك إلى معنى اجتماعي أخلاقي من تفاخر كثير من الناس بالملابس والمآكل ثم يلتفت إلى صديقه وينزهه عن أن يكون من هذه الشرذمة:
إني أقدر من ثيابي جبتي * إذ أنها سبب لحسن معيشتي أوصيت مهدي (1) أن يوسع كمها * قصدي بذلك أن يطابق ذمتي وأحل في صدر المحافل معجبا * نشوان يا صاح بخمر العزة وبها أكون بذي الحياة منعما * وأعدها وقت الجدال لنصرتي لما انتهى الخياط قلت مفاخرا * الآن طارت في العوالم شهرتي وأخذتها والقلب يرقص في الحشا * طربا بها ووضعتها في غرفتي وذهبت من فرط السرور لأحستي * الخمر الخلال (2) لكي تتم مسرتي فرجعت أطلبها أفتش حائرا * تحت اللحاف وتحت طي الفرشة حتى إذا انقطع الرجاء جلست في * داري أفكر في شؤون قضيتي فسمعت صوت العقل ينطق معربا * مهلا فثوب الفخر ثوب العفة إن الملابس يا صديق بأسرها * فخر النساء وسلوة للصبية يغنيك عن قطع الثياب جميعها * علم وأخلاق وطيب سريرة هي للنفوس الطاهرات سلامة * في هذه الدنيا ويوم البعثة وهي اللباب وغيرها صوت الردى * يمشي بصاحبه لأعمق هوة ومن أبيات الشيخ حسين البعلبكي:
أدهى النوائب والمصائب قصتي * سرقت ويا أسفي الجديدة جبتي منيت نفسي أن أعيش منعما * واليوم ضاعت حسرة أمنيتي شلت يمينك أيها اللص الذي * كدرت من دون البرية عيشتي وغدا سألقى الله مظلوما وليس * يضيع للمظلوم أدنى ذرة وأقول هذا سارق عاف الورى * وأتى - وما خاف الفضيحة - غرفتي هو سارق لم يخش أي عقوبة * فأسكنه يا ربي بأعمق هوة قد كنت فيها للرفاق مفاخرا * وقضيت أيام الشتا بمسرة حتى أتى ذاك اللئيم فصادها * بيديه صيد الذئب أسمن نعجة وبساعتي للوقت مقياس وقد * ظهرت محاسنها بأبدع صورة عند المساء تدق أجمل دقة * ولدى الصباح ترن أعذب رنة أواه من هذي البسيطة قد غدت * مملوءة بشرار أهل الخسة ذهب العفاف من الرجال فلا يرى * فيهم ولا يدرون معنى العفة نبذوا المكارم والفضائل جانبا * وتسربلوا بثياب كل رذيلة الناس من أموالهم في أزمة * ومن الفضائل أصبحوا في أزمة