دائما هو الوصول إلى الحق والمعرفة وإن أخطأ بعض الأحيان في النتيجة.
فقد أنكر ابن سينا اقتران علم الله بالزمان لأنه يحتاج في رأيه إلى آلة جسمية فلجا إلى القول بأنه يعلم الجزئيات على وجه كلي غير مقترن بالزمان لينزهه عن ذلك. وإذا فالهدف هو تنزيه الخالق واحترام العقيدة. وابن سينا يوم أن قال بقدم العالم لم يهدف إلى أكثر من تنزيه الله عن التغير والاستحالة التي تلحق الأشياء الحادثة وإذا فتنزيه الخالق واحترام الدين القائل بالخلق هي البواعث التي أملت عليه هذا الرأي ولا يوجد في العالم ما هو أنبل من هذه البواعث. أما مشكلة البعث والأبدية فقد كان ابن سينا في ذلك الوقت ضحية لمقررات العلم في أيامه فقد رأى العلم - وكم يخطئ - أن التغير مستحيل على عالم السماوات وإذا فلامكان لتفسير مثل قوله تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} تفسيرا حقيقيا وإذا فليبق النص رمزا ولتؤول النصوص الأخرى الواردة في ذلك فابن سينا يوم أن قال بالرمزية كان يحترم العقل والعلم ويفسح مع ذلك مكانا للدين في نفسه.
إن مقررات العلم اليوم في صالح الأديان وإن المكتشفات الحديثة تجعل نهاية هذا العالم ممكنة بل متوقعة وإذا فلم يكن هناك علم صحيح ليقتضي تأويل النصوص ورمزيتها وحبذا لو شك ابن سينا في معارف زمنه الكونية فإنه كان بذلك يسير بالإنسانية ما يزيد عن عشرة قرون إلى الإمام وربما كان قد احتل مكانه بين بناة النهضة العلمية الحديثة. ولكن حسبه أنه قد بذل جهده وكان نبيلا في مقصده ولذلك كله يشارك الأزهر في عيده الألفي اعترافا بفضله فيما أصاب فيه وتقديرا لبواعثه فيما أخطاه التوفيق في تقريره والعصمة لله وحده والله ولي السداد.
وقال الشيخ محمد رضا الشبيبي بعنوان:
جوانب متعددة من ابن سينا كتاب المباحثات مجموعة أسئلة وأجوبة ورسائل متبادلة بين ابن سينا وبعض أصحابه تختلف نسخها وترتيب موادها وطريقة تأليفها بحيث لا يعلم على التحقيق من جمعها ولا من أطلق اسم المباحثات عليها وقد نظم تلميذه الجوزجاني فهرسا معروفا لكتبه عد بينها كتاب المباحثات.
وردت في الكتاب أسماء جماعة من أصحاب الشيخ منها " بهمنيار " وهو يكثر من توجيه الأسئلة ويعني الشيخ بالإجابة عن أسئلته وليس لنا دليل قاطع على تعيين من عني بجمع الكتاب من بين هؤلاء وإن اشتهر أنه بهمنيار وإذا لاحظنا كثرة التفاوت والفروق البعيدة بين نسخ المباحثات جاز لنا أن نقول: إن جماعة من أصحابه وفي مقدمتهم بهمنيار عنوا بجمع رسائله وأجوبته المدونة في الكتاب كل على طريقته ووسائله الخاصة ولهذه الناحية اختلفت النسخ والأصول حتى لا نجد أحيانا شبها ما بين نسخة وأخرى والظاهر أن هذا الكتاب مؤلف من مجموع ما وجد متفرقا في آثار بهمنيار وأستاذه من جزازات ومن أجوبة الشيخ عن رسائله إليه وبعضها بخط الشيخ وبعضها بخط بعض تلاميذه ووراقيه وفي المباحثات فوائد عن باقي كتب الشيخ مثل الإشارات والشفاء والإنصاف والفلسفة المشرقية وقد رد أبو علي في بعض أجوبته هذه على بعض معاصريه ممن كان يناقش فلسفته ولكنه تناولهم بلهجة جافة ما كنا نتوقع صدورها منه وفي الكتاب أيضا نبذ يستفاد منها شئ لم يعرف من قبل عن أحوال الشيخ الرئيس.
مدار البحث في الأسئلة والأجوبة الواردة كلام طريف في أقسام الحكمة والفصل بين العملية منها والنظرية في المباحثات على مسائل من الفلسفة الإلهية والطبيعية وفي البحوث النفسية منها فوائد طريفة عن الفرق بين نفسي الإنسان والحيوان الأعجم وبين شعوره وشعور الحيوان. ويستفاد من دراسة المباحثات - فيما نرى - فوائد جمة أهمها الأمور الآتية:
1 - دلالة بعض نصوص الكتاب على ناحية طريفة من سيرة ابن سينا وأخلاقه.
2 - كشف عن خطر الصراع بينه وبين فلاسفة عصره.
3 - أسلوب الشيخ في ترسله.
وقال يتابع كلامه بعنوان:
معركة ابن سينا لا نهاية لمعركة ابن سينا التي بدأت في عصره فهي مستمرة إلى الآن وما زال المعنيون بالفلسفة فريقين في موقفهم منه فريق له وفريق عليه ولا عجب فان عصره عصر احتدام الآراء ومصادمة الأفكار طورا بين أشياع الفلسفة وخصومها وتارة بين أصحاب المذاهب الفلسفية أنفسهم من قدماء ومحدثين طبيعيين وإلهيين.
في هذا العصر نبه ذكر الشيخ وشدت الرحال إليه لأخذ الفلسفة وفنون الطب والحكمة وكثر عدد تلامذته وكان الصراع في عصره كما هو اليوم وكما هو بعد اليوم قائما بين معاني الحياة في ناحية الروح والمادة والشك واليقين واليأس والرجاء والحق والباطل أو دائرا على البحث في طبيعة النفس والوجود وحقائق الموجودات وغير ذلك عن مطالب الفلسفة وقد أبلى الشيخ بلاءه في هذا الصراع دفاعا عن نفسه وعن آرائه ومعتقداته وبذل جهده في الرد على مخالفيه وتفنيد آراء المشنعين عليه.
وفي هذه الفترة تعددت الفرق والأحزاب المعنية بالفلسفة وتميزت منها فرقتان الأولى أشياع الفلسفة القديمة أو الفلسفة المادية كما يقال لها أحيانا والثانية الفرقة المشائية أشياع أرسطو وهي فرقة مشهورة معقودة اللواء في هذا العصر لابن سينا ومركزها في أصفهان وغيرها من حواضر الدولة السامانية. أما الفرقة الأخرى فلا يعرف لها رئيس في هذا العصر على أن أشهر مراكزها بغداد وبعدها البصرة، والغالب أن جل المعنيين بالفلسفة من العراقيين والبغداديين لم يكونوا من أشياع المشائين ومن هذه الناحية شجر ما شجر من الخلاف بين الفرقتين وعنيت كل فرقة بالرد على الثانية مراسلة وكتابة كما يشهد بذلك كتاب المباحثات.
لا ينكر نشاط البغداديين المعنيين بالفلسفة في هذا العصر في الكتابة والتأليف ومناقشة آراء ابن سينا ولا ينكر وجود حركة عقلية قوية في عاصمة بني العباس مستقلة عن مدرسة الشيخ الرئيس في أصفهان وخوارزم والري متجهة غير وجهته منتحية نحو معارضته في كثير من الأحيان ولما تفاقم خبرها لدى الشيخ وتلامذته عنوا بجلب تصانيف البغداديين إلى أصفهان على مغالاة أصحاب هذه الكتب بالسوم ولكن أصحاب ابن سينا لم يضنوا بالمال مهما بلغ في هذا السبيل حتى أسهم في ذلك بعض الأذكياء من أبناء الأمراء. كل ذلك بغية الاطلاع عليها والوقوف على مدى تباين وجهات النظر ومناقشة آراء البغداديين من هذه الناحية. هذا مع أن الشيخ كان بحاجة إلى الاستجمام في هذه الآونة