وتدور الأيام ويلقى أهل البيت محنا وارزاء، ويبرز الأوفياء ملتفين حول الأسرة النبوية عازمين على الموت دونها اخلاصا لمحمد ورسالته. ويقف الحسين في كربلاء في أقل من مائة من الرجال كانوا يمثلون في تلك الساعة انبل ما في الكون من سجايا، وهل في الكون أنبل من أن يبذل الإنسان دمه طواعية وفاء لرجل وثباتا على مبدأ واخلاصا لعقيدة.
وتبارى الرجال في التضحية ومضوا يسقطون واحدا بعد الآخر. وكان في الركب الحسيني رجل بسيط، لا يحسب إذا حسبت البطولات، ولا يذكر إذا ذكرت التضحيات، لا يؤبه لرأيه ولا يعد لمهمة من مهمات الأمور.
كان يؤمر فيلبي الأمر، ويستخدم فيخدم مسرعا، كان أقصى ما يعرفه الرفاق عنه أنه خادم أمين وتابع مخلص. وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال.
كان رقيقا من أولئك الأرقاء السود الذين امتلأت بهم قصور العتاة وبيوت الطغاة، وكانت أية حشرة تلقى عناية أكثر مما يلقاه أي واحد منهم. وكان نصيبه ان وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمد المخلص، وسمع أبو ذر النبي ص يوصي بالأرقاء خيرا ويحض الناس على تحريرهم، ومن أولى من أبي ذر بتنفيذ وصايا النبي فأعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرا.
وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطهد ومات منفيا في الربذة، وظل جون فقيرا معدما، فتلقاه أهل البيت بالحنان والعطف، فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدهم رأوها جديرة بالوفاء فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم يقوم على رعاية بيتهم والعناية بأطفالهم وقضاء حاجات رجالهم.
ومشى الحسين إلى كربلاء، وهذه حال جون، لا شان له أكثر من هذا الشأن، ولا من يفكر بان يكون لجون دور فوق هذا الدور. وكان في حسبان الجميع أنه سيغتنم أول فرصة للسلامة فينجو بنفسه وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد.
ولكن جون بقي في ركب الحسين لم يفارقه مع المفارقين، وثبت مع الرجال المائة الذين ثبتوا حتى وصلوا إلى كربلاء، وظن الناس أن (جون) سينتظر الساعة الحاسمة، ثم ينطلق بعدها في طريق النجاة، ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه، وجاء اليوم التاسع من المحرم وجون قائم على خدمة الحسين، فها هو يصلح له سيفه والحسين يردد تلك الأبيات الشهيرة التي لم تستطع معها و أخته زينب إلا أن تذرف دموعها.
أما جون فلم يذكر أحد أنه انفعل أو تأثر أو بكى، أ تراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات؟ أتراه صلب العاطفة متحجر القلب إلى حد لا يهزه صوت الحسين ينعى نفسه؟ أ تراه في تلك الساعة في شاغل عن كل شئ إلا عن نفسه يفكر كيف يدبر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد؟
الحقيقة كانت فوق كل تصور... لم يبك جون ولم ينفعل ولم يتأثر، لأن ما كان فيه كان فوق البكاء والانفعال والتأثر. كان جون وهو يصلح سيف الحسين، والحسين ينشد أبياته، كان جون يستعرض في ذهنه كل ذلك الماضي الحافل، كان يتذكر النبي محمدا ص وهو يرفع الإنسان الأسود إلى أعلى مراتب الكرامة حين عهد إلى واحد منهم بوظيفة مؤذنه الخاص وكان يتذكر تلك الألوف من السود التي انطلقت حرة تنفيذا لوصايا محمد. كان كل ذلك يجول في ذهن (جون) مولى أبي ذر الغفاري.
وها هو سيف الحسين الآن في يده لآخر مرة يصلحه له ليقف به الحسين غدا على أعلى قمة في التاريخ فيهز الدنيا كلها لتشهد كيف تكون حماية الهدى والحق والخير، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي إلا الاستشهاد ذودا عما تؤمن به وتعتنقه، وكيف يرفض الأباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون حياة الحرية والسعادة للأمة، وحياة الكرامة والحق لهم.
غدا سيلمع هذا السيف الحديدي في كف الحسين ثم ينثلم إلى الأبد، ولكن سيف الحق الذي جرده الحسين سيلمع إلى الأبد دون أن ينثلم، وغدا سيعلو صوت الحسين بنداء الحرية ثم يصمت إلى الأبد، ولكن صوت الحرية الذي انطلق من فم الحسين سيظل مدويا إلى الأبد.
كان جون يلجا إلى صمت رهيب، وظل صامتا حتى دنا الليل، وأصغى بكل جوارحه إلى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين وأنصاره، وهو يحرضهم على تركه وحده والانطلاق في سواد الليل، وهم يردون عليه واحدا بعد واحد رافضين لأول مرة في حياتهم أوامره، ويصرون على أن يلقوا نفس المصير الذي سيلاقيه هو.
كان جون في تلك الساعة يجلس في زاوية دون أن يأبه له أحد، وكان يود من كل قلبه لو كان لصوت الزنوج صوت بين هذه الأصوات، ولكنه فضل الصمت المطبق.
وفي الصباح عندما تبارى الأبطال المائة متسابقين إلى الموت، ومشى كل منهم يستأذن الحسين ويودعه ماضيا إلى مصيره، تقدم (جون)، وهو في كل خطوة من خطواته لا ينفك مصغيا إلى صوت زميله بلال الحبشي متعاليا فوق كل أصوات البيض تكريما من محمد واعزازا. وربما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بقعة، على ظهر الكعبة حين امره محمد ساعة فتح مكة أن يصعد فينادي بالأذان. الأسود الذي كان عبدا ذليلا قبل رسالة محمد يصعد على الكعبة، وهو في نظر الناس أعز إنسان.
دنت ساعة الوفاء لمحمد، دنت الساعة التي يرد فيها هذا الزنجي (جون) بعض الجميل لمحمد، وهل أعظم في الوفاء لمحمد من أن يموت ذودا عن أبنائه ونسائه وتعاليمه، وتقدم جون من الحسين وقد انقلب بطلا مغوارا، وقد تجمعت فيه كل فضائل بني جنسه، تقدم يستأذن الحسين في أن يكون كغيره من رفاق الحسين.
والتفت الحسين إليه وقد أخذته الرقة له والحنان عليه، ولم يشأ أن يورطه فيما لا شان له به، فقال له: أنت إنما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا.
ولكن جون البطل أجاب الحسين: أنا في الرخاء على قصاعكم وفي الشدة أخذلكم؟! ثم أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين، بل أراد أن يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية، تلك الأجيال التي لم تر للزنوج الكرامة التي لهم، فقال: إن ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم، وإن لوني لأسود، فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي؟ لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم.