من حيث علاقته بهم وعلاقتهم به، أو من حيث موقفهم السياسي أو العسكري من أعدائهم والطامعين في بلادهم أو في موقف أعدائهم منهم.
ولكن سنجد في " اللزوميات " أفكارا وآراء كثيرة تتسم بالطابع الفكري النظري وهي ذات مقاصد سياسية واجتماعية متأثرة بجوهر الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع العربي الاسلامي في عهده، وكانت الدولة العربية الإسلامية، بوجه عام، مصدر الكثير من هذه الأوضاع. انه يتحدث هناك عن الرؤساء والأمراء إذ يراهم يعدون على الرعية، وهم اجراؤها، ويتحدث عن مظاهر الفساد والاضطراب في مختلف مناحي الحياة العربية يومئذ، ويتحدث عن المظالم الاجتماعية تصيب فئات المجتمع الضعفاء، وعن سوء توزيع الحظوظ بين الناس، إلى غير ذلك من الانعكاسات الحقيقية الصادقة عن أوضاع المجتمع والدولة في شعر " اللزوميات " كما يعرف الجميع.
ولكن، ما إلى هذا النوع قصدت، حين وضعت السؤال بأمر الشعر القومي في أدب أبي العلاء. بل قصدت إلى وجه آخر من هذا الأمر، حيث يبدو الشاعر وكأن احساسا ينبع من وجدانه الشاعري فيهز ملكاته وأدواته الفنية للتعبير عن عاطفة الاعتزاز بقومه: بتقاليدهم، بمفاخرهم، بشمائل معينة من أخلاقهم، بوقائع معروفة من فعالهم، بمزايا مأثورة من مزاياهم وخصائص تاريخهم... هل في شعر " سقط الزند " شئ من هذا؟
نعم، وهنا لنا فارق جديد بين " سقط الزند " و " اللزوميات "، أو بين المعري في مرحلتيه: الأولى والثانية:
نقرأ قصيدته التي مطلعها:
هو الهجر حتى ما يلم خيال وبعض صدود الزائرين وصال وعجيب ان المعري يخرج من المطلع هذا، ليدخل رأسا إلى موضوع القصيدة، دون أن يستنفد شيئا من طاقته في ما عودنا إياه من تقديم الغزل والنسيب ووصف المسير والإبل والفيافي ومشاق الاسفار وظلمات الليالي وعصف الرياح ومشاهد النجوم ووهج السيوف واكتظاظ الرماح، إلى نهاية السلسلة...
ينتقل من المطلع رأسا، وهو طافح العنان، إلى حديث هذا الفتى العربي الذي " تقصر الابصار عن قسماته " وتقوم الهيبة والجلال يسترانه دون كل ستر يمنع النظر إليه، ونحن لا نعرف من هو هذا الفتى المهيب، ولكننا نعرف انه قائد معركة دارت في " حارم " من شمال سوريا، وأن المعركة كانت على الثغور بين جيشه وجيش الروم الذي اعتاد أن يغزو بلاد العرب على تلك الحدود، ويهيجنا الشاعر لأن نصغي ونرى كيف يجيش على الخيل التي يقودها الفتى العربي بحر من الكتائب، وتخر إليها الشهب وهي نصال، وكيف يترامى إلى المعركة:
فوارس قوالون للخيل أقدمي وليس على غير الرؤوس مجال لهم أسف يزداد اثر الذي مضى من الدهر سلما ليس فيه قتال بأيديهم السمر العوالي كأنما يشب على اطرافهن ذبال (1) وبعد قليل نرى الشاعر، في انقض الحماسي، وقد انقض على جماعة الروم الغزاة، حين تصورهم في غمرة الذعر وشدة المحنة عند لقاء الكتائب اليعربية، فإذا هو يجهز عليهم بهذا الهدير:
بني الغدر، هل ألفيتم الحرب مرة وهل كف طعن عنكم ونضال وهل أطلعت سحم الليالي عليكم وما حان من شمس النهار زوال (2) وهل طلعت شعث النواصي عوابسا رعال ترامى خلفهن رعال (3) لها عدد كالرمل المبر على الحصا ولكنها عند اللقاء جبال (4) فان تسلموا من سورة الحرب مرة وتعصمكم شم الأنوف طوال (5) ففي كل يوم غارة مشمعلة وفي كل عام غزوة ونزال (6) خذوا الآن ما يأتيكم بعد هذه ولا تحسبوا ذا العام، فهو مثال ونجري سراعا مع الشاعر، لكي نرى خيل الكتائب العربية، وهن:
يردن دماء الروم، وهي غريضة ويتركن ورد الماء، وهو زلال (7) تجاوزه بالوثب كل طمرة تمازج في فيها دم ورؤال (8) تدانت به الأقران، حتى تجاثأت كأن قتال الفيلقين جدال (9) وقد علم الرومي انك حتفه على أن بعض الموقنين يخال فما كبروا حتى يكونوا فريسة ولا بلغوا ان يقصدوا فينالوا ونجول جولة ثانية في " سقط الزند "، فإذا بنا نقف دهشين أمام هذا المستهل يفجؤنا منه هذا الصدى المتجاوب المرنان:
لقد آن أن يثني الجموح لجام وأن يملك الصعب الابي زمام أ يوعدنا بالروم ناس، وإنما هم النبت، والبيض الرقاق موام؟
أبو العلاء هنا فارس على أهبة ان ينزل المعركة، ولكنه يبتدر العدو بالنذير الرهيب قبل النزال، والعدو هنا هو جيش الروم كذلك أو من يواليهم ويستعديهم من الخونة الأعراب، والمعركة دفاع عن الثغور، وذياد عن الحمى العربي، وانتخاء لضرب الغزاة، واعتزاز بأمجاد الفروسية العربية:
كان لم يكن بين المخاض وحارم كتائب يشجين الفلا وخيام (10) ولم يجلبوها من وراء " ملطية " تصدع أجبال بها وآكام (11) كتائب من شرق وغرب تألبت فرادى أتاها الموت، وهي تؤام غرائب در جمعت، ثم ضيعت وقد ضم سلك شملها ونظام بيوم كأن الشمس فيه خريدة عليها من النقع الاحم لثام (12) كأنهم سكرى أريق عليهم بقايا كؤوس ملؤهن مدام فأضحوا حديثا كالمنام وما انقضى فسيان منه يقظة ومنام والظاهر من سياق القصيدة انها موجهة إلى قائد عربي امتحنته التجارب بمقاتلة الروم، ولكن المصادر التي بأيدينا لا تعين لنا هذا القائد، غير أن لهجة أبي العلاء في هذه القصيدة ليست لهجة المادح كما نعرف طرق المدح في شعرنا القديم، بل من الواضح أن أبا العلاء هنا يعبر عن انفعال وجداني بالقضية التي