تكن من الممترين) الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس: أي لا يمكن أحد منكم ممتريا، أو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك. قوله (فمن حاجك فيه) هذا وإن كان عاما فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم من نجران كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه وإن كان السبب خاصا، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير فيه لعيسى، والمراد بمجئ العلم هنا مجئ سببه، وهو الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة والمجادلة. وقوله (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر.
قوله (ندع أبناءنا) إلخ اكتفى بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون.
مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما سيأتي. قوله (نبتهل) أصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، يقال بهله الله: أي لعنه، والبهل اللعن. قال أبو عبيد والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد:
في كهول سادة من قومه * نظر الدهر إليهم فابتهل أي فأجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. قوله (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) عطف على نبتهل مبين لمعناه. قوله (إن هذا) أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى (لهو القصص الحق) القصص التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان: أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضا، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره، وزيادة من في قوله (من إله) لتأكيد العموم، وهو رد على من قال بالتثليث من النصارى.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة: أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا نحن ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال: قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال:
هذا أمين هذه الأمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس: أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال:
من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) إلى آخر الآية. وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، فقال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام، قالا فهات. قال: حب الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير.
قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا. قال جابر: فيهم نزلت (تعالوا ندع أبناءنا) الآية. قال جابر (أنفسنا وأنفسكم) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة. ورواه أيضا الحاكم من وجه آخر